domingo, 29 de mayo de 2011

جمع الطاقات

جمع الطاقات والاستفادة منها
                                                                                                                              
قال عمرو بن العاص : ( قَدِمت من جيش ذات السلاسل فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على قوم فيهم أبو بكر وعمر إلا لمنزلة لي عنده ، فأتيته حتى قعدت بين يديه فقلت : يارسول الله ، أي الناس أحب إليك ؟ فقال : عائشة ، فقلت : إني لست أعني النساء إنما أعني الرجال . فقال : أبوها ، فقلت : ثم من ؟ قال : عمربن الخطاب ، فعدَّ رجالاً فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم ، وقلت في نفسي : لا أعود أسأل عن هذا (1) .

يقول الأستاذ صالح الشامي صاحب " من معين السيرة " في جملة الفوائد التي يستنتجها من هذه القصة ومما يعنينا في هذا الموضوع : " في الحديث لفتة إلى سلوكه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه جميعاً ، فلكل واحد منهم مكانته في نفس النبي الكريم يسأل عن الصغير والكبير ، وبهذا يشعر كل منهم وكأنه الصاحب المقرَّب له صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما دفع عَمّراً  أن يسأل ، إن الخُلق العظيم الذي كان عليه النبي الكريم كان يسع جميع الناس " (2) .

هذا الخُلق العظيم الذي وسع الناس جميعاً حتى غدا كل واحد من أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم يظن بأنه المُقَرَّب له ، هو الذي يحتاجه المسلم الداعية الذي يتصدى للدعوة إلى الله تعالى ، وبه يستطيع أن يجمع الطاقات الكثيرة المبعثرة ويوظفها في المواقع المناسبة لها والتي يحسن أصحابها القيام بها .

إنه لمن النافع أن نبين دون لبس أو إبهام أننا بحاجة لكل مسلم ، وأننا نريد كل طاقة متوفرة ، لأن نجاح دعوتنا مرهون بقدرتنا على التحلي بخُلق تجميع الطاقات وتوظيفها في مكانها المناسب ..

وهذا الأمر يتطلب منا :
- التعايش مع الناس وفهم قضاياهم التي تشغل بالهم ، ومشاركتهم آلامهم وآمالهم وتحويل ذلك كله بأسلوب منهجي مدروس باتجاه الدعوة والعمل الاسلامي ، ووضع أهداف قريبة لهم وأهداف تربطهم مستقبلياً بالإسلام ودعوته على المدى البعيد .

- توثيق الصلة بالذين استجابوا لداعي الخير ، وتوحيد تصوراتهم وتكثيف الاتصال بهم لكي نقتصر الطريق والزمن ، ثم العمل على ترتيب لقاء منتظم لهم بمواعيد محددة وبرامج واضحة المعالم ، { كان صلى الله عليه وسلم قد جعل من المسلمين أُسَراً ، فكان يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند رجل به قوة وسعة من المال ، فيكونان معه ويصيبان من فضل طعامه ، ويجعل منهم حلقات فمن حفظ شيئاً من القرآن علّم من لم يحفظ فيكون من هذه الجماعات أُسَر أُخُوة ، وحلقات تعليم .

وكان ممن أسلم أخت عمر بن الخطاب فاطمة وزوجها سعيد بن زيد ( وكان زيد ابن عم عمر ) فكانا في أسرة واحدة مع نُعَيم بن عبد الله النحام من بني عدي ) أسرة عمر(  وكان معهم خباب بن الأرثّ (3) .

- ثم فلتحاول كل مجموعة أن تقوم بإنجاز فكرة معينة بصورة عملية لكي تبدأ عملية الإنتاج وتصبح بذلك نواة فاعلة لها شخصيتها المحددة ، فنستطيع بعدها مع مثيلاتها ايجاد حركة فاعلة في المجتمع بأسلوب مؤثر جذّاب ، أساسه العمل المُنتج البنّاء وهدفه توطيد أركان الدعوة إلى الله .

- وليس من المفيد أن نعتقد بأن الطريق خالية من العوائق والعلائق والمثبطات ، بل  يجب أن نأخذ للأمر عدته ، ونحصن أنفسنا ومَن معنا من كل معوقات المسير ، فمن الناس من يسعى لمصلحة ذاتية ، أو وجاهة شخصية أو دينية أو سياسية ، وسيقف معارضاً لك ولطريقك .. ( إِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِيْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيْمٌ ) (4)  .

- إن الانفتاح على الناس والعمل في صفوفهم ، وقبول العون منهم هو نهجنا لدعم دعوتنا وتزويدنا بالطاقات الجديدة الشابّة المتفتّحة المقبلة على الحياة ، المتطلعة للمستقبل بعين الرضا والتفاؤل .

والانغلاق ليس من طبيعة إسلامنا ، بل سبيلنا هو أن يلتف المسلمون جميعاً حول دعوتهم ، فإذا تحقق هذا الأمر ، وبُذِل في سبيله الغالي والنفيس ، جاء نصر الله الموعود ( يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوْا إِنَّ تَنْصُرُوْا الْلَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (5) .


(1)  قال : الزرقاني : أخرجه الشيخان والترمزي والنسائي وغيرهم ، دخل حديث بعضهم في بعض . شرح المواهب 2/1279 هـ وهو عند البخاري في المغازي / ذات السلاسل ، وعند مسلم في فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
(2) ص 382 " من معين السيرة " صالح أحمد الشامي / الطبعة الأولى 1984 المكتب الإسلامي – بيروت .
(3) ص 15 من ( أخبار عمر وأخبار عبد الله بن عمر ) للمؤلفين : علي وناجي الطنطاوي / الطبعة الثامنة 1983 – المكتب الاسلامي – بيروت .
(4) سورة فصلت : الآية / 34 .
(5) سورة محمد : الآية / 7 .

رياج ططري   

jueves, 26 de mayo de 2011

المرحلية

  المرحلية : من سنن التغيير في المنهج الاسلامي 
                                                                                                                                 
انطلقت الدعوة الاسلامية منذ ولادتها وفق عمل مرحلي انسجاماً مع سنة الله تبارك وتعالى في تغيير الأنفس والمجتمعات والأمم ، وكل عمل يُراد له النجاح ، عليه متابعة السير على هذه الخطى ، سنة من سبقنا من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم جميعاً .

والمرحلية في عملنا ودعوتنا شرط موضوعي تفرضه :

أولاً : ضخامة الغاية والأهداف التي رسمناها بداية لجهادنا .
ثانياً : تواضع إمكاناتنا المادية والبشرية التي بحوزتنا والتي نستطيع التحكم بها وتوظيفها للمهمة التي نتصدى لها .
ثالثاً : كون هدفنا تغييرياً ، والتغيير لايمكن تحقيقه في الناس دون الصبر والتمرس في الدعوة والسير خطوة خطوة .
رابعاً : كون المرحلية  سنة من سنن الله تعالى في الكون والمجتمع .

المرحلية في القرآن الكريم

إن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ست مراحل ، ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِيْ سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوْبٍ ) ق:38. وخلق الله الإنسان في عدة مراحل ، ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِّنَ طِيْنٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِيْ قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا الْنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامَا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمَا ثُمَّ أَنَشَأْنَاهُ خَلْقَاً آَخَرَ فَتَبَارَكَ الْلَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِيْنَ ) المؤمنون 12 – 14، وقال تعالى ( مَالَكُمْ لَاتَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارَا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارا ) نوح: 14 . ونرى في خلق الكائنات الحية أنها خلقت أطوارا ، وأودع الله في جميع مخلوقاته خاصية النمو المرحلي التدريجي كما نلاحظه في كل ما يحيط بنا .

مقدمات ضرورية

ونلاحظ كذلك في سنته تعالى في تغيير المجتمع وتحوله من وضع إلى آخر – سواءً كان التحول جزئياً أم كلياً – أن هذا التحول يتم على مراحل ، فالتحول يتم بجهود

بشرية تقوم به فئة من المجتمع آمنت به ووجدت ضرورة تنفيذه في حياة الناس ، ولهذا الأمر علته :

        أولاً : ضرورة القيام بالبناء الذاتي لأفراد القاعدة  الصلبة ، واستكمال العدة اللازمة ، كحد أدنى من مقومات الجماعة التي ستحدث التغيير .

        ثانياً : إن استعداد المجتمع – أي مجتمع – للتغيير بصورة مفاجئة أمر صعب المنال ، بل ربما يسبب مضاعفات تتناقض مع المراد تحقيقه إذا ما حدث فجأة ، فيؤخر التغيير أو يجعله بعيد المنال .

        ثالثاً : إن التغيير لا يحدث عادة باتجاه واحد ، حيث لا  يجد المغير في الوسط الذي يعمل فيه مقاومة ولا عداوة ، بل يقدر ما يريد أن يفعل بالاتجاه المعاكس لما عليه الناس ، يقدر ما يجد من عقبات في طريقه ، مما يستلزم زيادة طاقة الفاعلية والاستمرار بها والإصرار عليها .


 وبالتالي فإن المرحلية في التحول ، تختلف باختلاف الشروط الموضوعية الموجودة في المجتمع وفي الأمة ، وتختلف باختلاف القدرة الذاتية للقاعدة الراسخة التي تتولى التغيير ، وكذلك طبيعة الأهداف المرسومة والتي يُعمل على تحقيقها ، وأمر هام : حجم المعارضة التي تقف في طريقها ، والعقبات التي تضعها أمام القاعدة المؤمنة ، وكذلك لاننسى عامل الزمن ، لأن المرحلة الزمنية التي يمر بها المجتمع ، لها أثر حاسم في عملية التغيير ، وكذلك على الفئة المغيرة .

المرحلية في حياة الأنبياء

في عملية استقراء سريعة لحياة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً ، نرى بوضوح بروز المرحلية في عملهم لتغيير مجتمعاتهم التي أرسلوا إليها بالإسلام ، الدين الخالص ، وقد طبّق خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم المرحلية في دعوته المباركة وأخذت معالمها مراحل ثلاثة بارزة :
       
المرحلة الأولى : وكانت مرحلة سرية دامت فترة قصيرة ، صاحبها تنزيل قصار السور لترسيخ جذور الايمان بالله واليوم الآخر ، ولبناء القاعدة المؤمنة من الذين تغيروا بالإسلام ليكونوا ركائز الدعوة ، ركائز التغيير في المجتمع ، وكانت هذه المرحلة سرية الطابع موجهة لمن يُتوسم فيهم الخير ، ودامت ثلاث سنوات .

المرحلة الثانية : وهي مرحلة الجهر بالدعوة والبدء بالصراع في البُنيات الفكرية والعقيدية والسياسية والإجتماعية ، وكان صراعاً عنيفاً استمر سنوات عشر ، وفي هذه المرحلة أبلت الجماعة المؤمنة بلاء حسناً .. وصبرت على الأذى وهي تفعل في المجتمع وتؤثر في أفراده وتبني قواعدها داخله وخارجه 

المرحلة الثالثة : وهي مرحلة الحسم والامتلاك زمام الأمور ، وإقامة الحكم الإسلامي بقيام الدولة الإسلامية في مجتمع المدينة المنورة ، وبداية المواجهة الكاملة مع أعداء الله ، وتوسيع رقعة الدولة في المناطق المحيطة بها ، واستتباب الأمر للمسلمين ، ودامت هذه المرحلة عشر سنوات .

العوامل الموجبة للمرحلية

على الرغم من اقتناعنا التام بأن المرحلية سنّة من سنن الله تعالى في تغيير الأنفس والمجتمعات ، هنالك عوامل موضوعية ننطلق منها في دعوتنا وهي :

        أولاً : هدي الإسلام .

        والمقصود بذلك أن الإسلام يعتمد الإقناع طريقاً للايمان ، دون إكراه ولا إرهاب ، مع وجود الثقة الكاملة بأن الإسلام دين الفطرة البشرية السليمة يتجاوب مع الطبيعة السوية عند الناس ويلبي حاجاتهم الاجتماعية ، وأمر آخر هو أن الإسلام يرفض " الوصولية " ويعتبر الوسيلة من جنس الغاية ، ولذلك لا يمكن اعتماد أسلوب " الغاية تبرر الواسطة " . كل هذه المقدمات تدلل على ضرورة وجود مرحلة زمنية كافية يستغرقها العمل في إقناع عدد من الأفراد ليكونوا في زمرة القاعدة الصلبة التي تقوم بالتغيير ، ويقوم على أكتافها إقناع الأمة بذلك .

         ثانياً : واقعنا المعاصر .

        إن واقعنا المعاصر بتعقيده الكبير ، وبتدخل الآلة العسكرية والإدارية للدولة في مختلف مناحي الحياة في المجتمع ، وكذا العقبات الموضوعية التي يضعها أعداء
التغيير نحو الإسلام ، وتخطيطهم الدائب لهذا الأمر ، يوجب على الدعاة إعداد قدرات رفيعة المستوى في كل مجال ، وهذا الأمر لا يتحصل إلا باستمرار العمل الدائب والتخطيط المرحلي المتجدد المبدع ، لأن الفروق الموضوعية بين جاهلية الماضي التي واجهتها الدعوة تختلف عن الجاهلية المعاصرة بما تملكه من وسائل وقدرات وأساليب مبتكرة .

        ثالثاً : التجارب

إن الهدي النبوي المسدد بوحي السماء ، والشروط الموضوعية التي تحققت في تنفيذ التغيير والمرحلية الواضحة فيه ، رصيد للدعوة كل زمان ومكان ، يستهدي به العاملون ويضعونه نصب أعينهم في أي عمل من الأعمال التي يقومون بها . كذلك لا يجب الانطلاق من نقطة الصفر عند الشروع بالدعوة ، إنما علينا الاستفادة من تجارب المسلمين كافة وسواهم ، أفراداً وجماعات ، على مدى الزمن وعلى كافة الأصعدة وفي كل الأمكنة ، وكما أننا لا نحبذ التقليد المطلق إلا أننا لا نتخلى عن تجارب المسلمين والآخرين في هذا المضمار بعد أن نقرأها قراءة  واعية ، عميقة ، بالإضافة لما تمدنا به تجربتنا الذاتية في العمل المرحلي ، والتي هي عامل إرفاد مستمر يبلور نظريتنا المرحلية ويزيدها وضوحاً وتحديداً .

مفاهيم لا غنى عنها

ولنا هنا وقفة من أجل توضيح بعض المفاهيم التي لا غنى للعامل في حقل الدعوة عن الوقوف عندها مليّاً وهي :
        أولاً : إن الالتزام بالمرحلية نهج سُنَني يجب أن يأخذ به من أراد التغيير ، وليس شرطاً أن يحقق التغيير في حياة الفرد أو الجماعة التي تصدت لهذه المهمة ، بل ربما تنقضي الأعمار والأجيال دون تحقيق هذه الغاية .

        ثانياً : إرادة الله لا تحدها حدود ، ولا تتقيد بالحسابات الإنسانية ، فقد ينتصر الله لعباده ، ويسهل من تنفيذ المهمة التي يقومون بتحقيقها ، بتوفير عوامل التوفيق والنصر فيها إذا ما توفرت شروط النصر ابتداءً ، مصداقاً لقوله تعالى : " يَأَّيهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوْا إِنَّ تَنْصُرُوْا الْلَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " محمد : 7  . نعم قد تتوفر الظروف المواتية ، فتتزايد سرعة الخطوات ، فتصبح متلاحقة سريعة الضربات ، ولكنها في كل حال موافقة لسنن التغيير في الأنفس والمجتمعات ، ولكن يجب أن لا تحرق المراحل مهما كانت المغريات والآمال ، حتى نأخذ بالأسباب تنفيذاً لوعد الله تعالى :
" إِنَّ الْلَّهَ لَايُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىَ يُغَيِّرُوْا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " الرعد :11 .

ثالثاً : ليس هناك حدود فاصلة بينة المعالم بين مرحلة وأخرى ، في مكان أو آخر ، فقد تتداخل المراحل بعضها ببعض ، وقد تسير مواكبة لبعضها البعض ، وقد تنفّذ مرحلة في مكان وأخرى في مكان آخر ، وقد تتخذ في موقع ما لايتخذ في موقع آخر ، ولكن في كل الأحوال يجب أن تسير القاعدة التي تقوم على التغيير وفق معايير واضحة الخطى ، مدركة لطبيعة المكان والزمان والمرحلة ، حتى تغطي قطاعات المجتمع وساحات أنشطته المختلفة مستوعبة المجالات كلها .

رابعاً : يحلو لكثير من الناس ذكر أرقام معينة يحددون فيها الزمن أو عدد الأشخاص ، أو نسباً معينة سبق وأن أخذ بها في مرحلة تاريخية معينة ، لبدء مرحلة معينة أو لإنهاء أخرى ، أو يجب توفرها ابتداءً لقيام دولة إسلامية أو استئناف الحياة الاسلامية .

ونحن نرى أن كل هذه المعطيات يجب أن تضبطها المعايير المنهجية التي وُضعت أصلاً في سلم أهداف التغيير ، والتي قد تتوفر في مكان دون سواه ، وقد تحققها جماعة دون أخرى ، وقد ينهض بها مجتمع ولا يقدر عليها مجتمع آخر لأسباب موضوعية بحتة ، ويبقى كل هذا رهين الاجتهاد البشري بخطئه وصوابه .

وبعد : فإن التخطيط والمنهجية في رسم مراحل التغيير ، وضبط معايير العمل بمقتضاها ، أمر جلل لا يقدر عليه إلا من سنّ وثابر وشمّر  عن سواعد الجد ، وغار في واقع الناس ومجتمعاتهم ، وخبر البيئة والمؤثرات الفاعلة فيها ، وعرف نشاطات الناس في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، بل والفكرية ومنها التيارات المؤثرة في عقول الأمة وشرائحها ، غير أن الأمر الأهم هو الالتزام الجاد ، والأخذ بقوة بهذه المعايير وعدم الخروج عليها لأي بارق يلوح في الأفق يغري بالنصر العاجل والنجاح السريع .  

إن هذا الموقف هو الركن الركين لسنة  التغيير المرحلي الذي يجب أن لا يتجاوزه الملتزمون به إلا بنفس المعايير التي وضعت أصلاً لتحقيق هذا الهدف ، وتنكبه يعني القضاء الكامل على كافة الجهود الصابرة التي تُبذل في سبيل التغيير نحو الإسلام . قال تعالى : " يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوْا اصْبِرُوَا وَصَابِرُوْا وَرَابِطُوْا وَاتَّقُوا الْلَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ " آل عمران: 200 .
والله الموفق ، وهو الهادي لسواء السبيل .

رياج ططري   

jueves, 19 de mayo de 2011

التَّيار المُؤيِّد



التَّيار المُؤيِّد

        إذا بدأنا أعمالنا بالاهتمام بتنظيم قاعدة واسعة عريضة من الناس ، تضم ملايين البشر ، فإنها لاشك ستكون عملية مستحيلة ، وقد عرفنا بالتجربة والخبرة والممارسة أن التجميع الكمي الذي يقوم على زيادة العدد فحسب في التنظيم ، لايجدي أبداً .

        ونحن يهمنا أن ننظم أولاً :

        القيادات القادرة على القيام بعملها والنجاح به ، وإعداد الأطر المتخصصة  التي ترفد القيادات وتمنحها قوة نوعية ، بما تملك من نظرة موضوعية علمية للأمور التي تتعرض لها بالدراسة والتحليل. 
        هذه القيادات والأطر هي - برأينا – عناصر القاعدة المؤمنة التي تضحي وتلتزم وتعمل من أجل تحقيق الأهداف الكبرى للإسلام ، تلبية لأمر الله تعالى :

(( ولتكن منكم أمة يدعون الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون )) " آل عمران : 104 " .

        إن العملية التنظيمية لابد أن تنجح ، إذا اتخذت الأسباب الكفيلة بنجاحها ، وخاصة لأنها مبنية على أسس سليمة ومجربة مسددة بالوحي ، ولأنه لايمكن أن نقوم كل يوم بتجارب جديدة ، ثم نحكم عليها بالفشل ، - أي العملية التنظيمية – بحاجة في وقتنا الحاضر إلى دفعة قوية لتنجح وتنطلق ، ولابد لنجاحها من خطة عمل واضحة لجميع العاملين المنضوين تحت لوائها ..

        وأمامنا الآن أمور لابد من تحقيقها :

        1ً– العمل الإسلامي المنظم .
        2ً- القيادة الملتزمة .
        3ً-  التيار المؤيد .

        إننا نحتاج إلى العمل الإسلامي المنظم الجاد ، حتى نتحرك ونسير في رسم طريقنا نحو النجاح ، مراعين تجنب الخطأ بكل طاقاتنا ، لأن أي خطأ يحدث ، سوف يستغل من أعداء التنظيم الإسلامي ، وسوف تعمل القوى المعادية للإسلام على تضخيمه وتحويل الناس عنه ، وهذه هي مسؤولية العاملين في الحقل الإسلامي ، وهي مسؤولية ذات طابع فردي وجماعي بآن معاً .

        إن المجتمعات الإسلامية المعاصرة مليئة بالتناقضات ، ولا يمكننا إزالة هذه التناقضات إلا عن طريق توعية الناس ، لكي يدركوا المدارك الحقيقية لعملنا الإسلامي ، وفي هذا السلوك تكمن قدرة القيادات العالية والوسطى الواعية المؤمنة بأهداف الإسلام الكبرى في أن يعرّفوا الناس بالايجابيات التي تسعى لتحقيقها القدوات الإسلامية ، والسلبيات التي تحيق بالمجتمعات المسلمة  .

        إن نجاح العمل الإسلامي في أية مرحلة من مراحله ، وفي أي مستوى من مستوياته ، مرهون بقدرة العناصر القيادية الفاعلة على التأثير في شرائح المجتمع المختلفة ، وتكوين الرأي العام فيها ، أي قدرة القيادة على الولوج إلى قلب المجتمع ، وربط الصلة الحميمة بقواعده المختلفة ، والعمل الدائب في كل جزء من أجزائه لإزالة الانحراف بكل صوره ، وتوجيه الدفة نحو الخير والصلاح ، وهذا الهدف لايتم التوصل إليه ، إلا بالتنظيم الدقيق المتقن ، والسهر المستمر المضني ، حتى يبلغ الأمر تمامه .

        والسؤال الملح الهام ، كيف نوجد العناصر القيادية القادرة في كل مجال وعلى كل صعيد ؟ وكيف نعدها لتكون قدوات صالحة ذات كفاءة عالية ، قادرة على توجيه الناس الوجهة الصحيحة ؟                                                                                                                                                               إننا إذا استطعنا ابتداء توفير العدد الكافي من القيادات في كل قطاعات وشرائح الأمة ، لأمكننا بالتالي ، توجيه الأمة نحو الطريق الصحيح ..غير أن الخطر الذي يداهمنا في تحقيق هذه الغاية ، هو وجود كثير من العناصر التي تتمتع بكفاءة قيادية عالية ، غير أنها انتهازية الطبع ، تحاول الظهور والتسلق على حساب العناصر التقية الصالحة .
        لهذا فنحن أمام مشكلة جد عويصة ، ونجاحنا في حلها مرهون تجاوزنا لعقبات كبيرة على طريق ايجاد القيادات الفاعلة الملتزمة ، وبالتالي على طريق التغيير المنشود .

        إننا بحاجة إلى القدوة المؤمنة المخلصة الواعية القادرة على التنظيم والقيادة، التي تكون بمثابة العصب في الجسم ، ومنها ومن أمثالها تتكون القيادة المؤثرة في جماهير الأمة ، المدركة لحقائق الأحوال والأمور ، والقادرة على ربط الصلة الدائمة بهؤلاء بكل إحساس ومسؤولية  ، وليس شرطاً أن تكون عدد هذه العناصر كبيراً ، فالواقع العملي لايحتاج إلى أعداد ضخمة ، إنما إلى عدد متجانس متفاهم فيما بينه ، لديه من الإمكانات والتخصصات ، ماتحتاج إليه طبيعة المسؤولية الموكولة إليه .

        ولكن كيف نختار ونعد هذه العناصر الرائدة ؟
        وماهي السبيل لاستكشاف هذه القدرات الصالحة ؟
       
        إن أمامنا طريقين :

        الأول : طرق المعرفة الشخصية لهذه الكفاءات .

        والثاني : طريق اكتشافها من خلال الممارسة العملية .

        أما الطريق الأول فيعرّفنا حتماً على عدد من  القيادات ، لكن الأمر يحتاج إلى برهان عملي، أي وضع هذه الكفاءة موضع الممارسة لنرى قدراتها الحقيقية ، ولنلمس أثرها الصحيح في المجتمع ، إذ أن المعرفة الشخصية ليست شرطاً كافياً لإثبات القدرة القيادية عند الفرد ، نظراً لكونها مرتبطة بمعايير فردية قد لاتتوفر فيها الموضوعية المطلوبة .

        وأما الطريق الثاني : فهو الأسرع لتحقيق المراد ، غير أن هذا المطلب يقتضي وجود العمل القائم مسبقاً .  

        إذاً فالمهمة الأساسية أمامنا ، تكمن في أن تبدأ القيادة الموجودة ، مهما كان عددها ، بالسعي والمبادرة لايجاد مجالات للعمل ، وساحات للنشاط وتوفير فرص الاتصال بالناس ، ومن خلال هذه الممارسات تستطيع القيادة القادمة اختيار العناصر التي أثبتت جدارتها في ساحة العمل ، وبرهنت على كفاءتها من  خلاله .

        نأتي بعدها على ذكر شروط لابد من توفرها في العناصر القيادية ، منها مايجب أن يتوفر عند اختيارها ، ومنها مايجب أن تلازم العناصر بصفة دائمة .

        إذ أن اختيار العناصر الصالحة ، منذ البداية ، اختياراً سليماً ، سوف يضمن استمرار نجاح عملية الاختيار بحد ذاتها ، وسوف تؤتي أكلها بتكوين قاعدة صالحة ، فمن كانت بدايته مشرقة كانت نهايته مشرقة على الأغلب .

        وحذار حذار من التهاون وغض البصر عن بعض التصرفات التي تشير إلى شرخ في حياة الداعية في المستقبل ، ومن الخير العميم المبادرة إلى رأب الصدع واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتجنيب العمل المزالق الخطيرة ، وإن كان لابد من البتر ، على الرغم مما يترك هذا البتر من أخطار ظاهرية إلا إنه  أسلم على المدى الطويل وأحفظ لخط الدعوة وأحوط لها من أن تتخبط في متاهات لاتقوم بعدها أبداً .

        وحذار حذار من الاختيار الشكلي والرؤية السطحية التي توحي لنا بأننا نقوم بعملية صحيحة ، فإذا هي عملية جوفاء خالية من المعنى والمضمون كمنسأة سليمان عليه السلام ، وهنا تدخل تصرفات تلبس الأمر على القيادات وتعرقل عملهم ، منها : التنازل لرأي الآخر خشية الصدام معه ، مع عدم الاقتناع بالرأي ، أو تملق بعض العناصر لشخص قيادي ، أو الشعور الزائف بالإنجاز في العمل ، فإذا الأمر لايتعدى كونه ترتيبات إدارية شكلية لاتلج إلى صلب الموضوع ، ولا تحقق من الهدف أي شيء .
        إن النجاح في اختيار العناصر القيادية ، والإصابة باستكشاف وجودها ، والقدرة على إقناعها وتوظيفها لأهداف الإسلام العظيمة ، هو السارية التي يرفع عليها الشراع ، فيجب علينا أن نسير بسرعة ، نحو توفير العدد المناسب من هذه القدوات ، وإذا أخطأنا – وسوف نخطىء – في اختيار بعضها – فيجب ألا يعيقنا هذا الأمر عن المضي قدماً ودون تردد ، وفي نفس الوقت نتدارك الخطأ ونقوم المسيرة .

        وعلى قيادات العمل الإسلامي القائمة الآن ، أن تعمل من خلال الناس ، فكل فرد عامل حينما يمارس عمله من خلال شرائح المجتمع ، سوف يقف حتماً على مايجري في قطاعه عن كثب ويتعرف على تصرف كل شخص من الأشخاص القياديين المختارين ، ويطلع على ماهية طبيعته ونفسيته وسلوكه .

        ومن خلال هذه المعرفة الصميمة ، يستطيع أن يوجه ويدرب وينمي قدرات هؤلاء الدعاة القادة . وبقدر فاعلية هؤلاء وأثرهم ، بقدر ماتزداد قدرتهم على النفوذ في طبقات المجتمع .

        وعندها – فقط – تنمو الصلة بالجماهير المسلمة وتتسع آفاقها ، ومن خلال هذه الممارسة ، أي : بالحضور في ساحات الناس ، وأماكن عملهم ونشاطهم ، يصبح بمقدور القادة التأثير عليهم ، لأنهم يعيشون معهم في سرّائهم وضرّائهم، يحسون بمشكلاتهم ، ويعايشون همومهم  ، يسمعون منهم فيسمع الناس لهم ، ويستجيبون لندائهم . وعندها يتكون التيار المؤيد للإسلام شيئاً فشيئاً ، وهكذا تنتشر الدعوة بين صفوف الناس بهدف إقامة الحياة الإسلامية عند الفرد والأسرة والمجتمع .
          
                                                            رياج ططري

sábado, 14 de mayo de 2011

العُلماء


العُلماء
( عند ابن الجوزي في صيد الخاطر )

في كتابه القيم " صيد الخاطر " (1)   يعرض لنا العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد الجوزي (2) من علماء القرن السادس الهجري أحوال العلماء الذين هم مظنة الخير والصلاح في أمة الاسلام فيقول :

علماء الدنيا وعلماء الآخرة :

تأملت التحاسد بين العلماء ، فرأيت منشأه من حب الدنيا ، فإن علماء الآخرة يتوادون ولا يتحاسدون ، كما قال عز وجل " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا (3) " وقال تعالى : " والذين جاءوا من بعدهم يقولون : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذن سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا (4) " .
        وعلماء الدنيا ينظرون إلى الرياسة فيها ، ويحبون كثرة الجمع والثناء ، وعلماء الآخرة بمعزل من ايثار ذلك ، وقد كانوا يتخوفونه ، ويرحمون من بلي به ، وهو الفارق بين الفئتين (5) .

تفاوت العلماء وأنفعهم :

        ويحكي الشيخ رأيه في العلماء وأصنافهم وتفاوتهم في العلم والعمل فيقول :
( لقيت مشايخ ، أحوالهم مختلفة يتفاوتون في مقاديرهم في العلم . وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه وإن كان غيره أعلم منه) (6) .

أصناف العلماء :

        ويعرض لنا أصنافاً من العلماء تلقى عنهم العلم ، ويبين لنا لماذا تأثر بهم دون سواهم : ( لقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون ، ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح وتعديل ، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة ، ويسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه إن وقع خطأ .

        ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة ، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث ، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه .

        فكان – وأنا صغير السن حينئذ – يعمل بكاؤه في قلبي ، ويبني قواعد الأدب في نفسي ، وكان على سمت المشايخ  الذين سمعنا أوصافهم في النقل .

        ولقيت الشيخ منصور الجواليقي ، فكان كثير الصمت ، شديد التحري فيما يقول ، متقناً محققاً . وربما سئل عن المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض

غلمانه فيتوقف فيها حتى يتقين . وكان كثير الصوم والصمت فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما .  ففهمت في هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول . (7)  )
       
وأصناف آخرون

        ثم يذكر الإمام ابن الجوزي أصنافاً آخرين من العلماء اتصفوا بأوصاف تتنافى وطبيعة العلم الذي يحملونه ، ثم يؤكد على أن العلم بالعمل هو الأصل الأكبر فيقول :
        ( ورأيت مشايخ كانت لهم خلوات في انبساط ومزاح ، فراحوا عن القلوب وبدد تفريطهم ماجمعوا من العلم ، فقل الانتفاع بهم في حياتهم ، ونُسوا بعد مماتهم ، فلا يكاد أحد أن يلتفت إلى مصنفاتهم .

        فالله الله في العلم بالعمل فإنه الأصل الأكبر . والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به ففاتته لذات الدنيا ، وخيرات الآخرة ، فقدم مفلساً مع قوة الحجة عليه ) .(8)

الغنى عافية للعلماء

        وفي فصل آخر يعالج مسألة من أدق المسائل وأخطرها على العلماء والدعاة ، فيبسط القول فيها ، ويضرب الأمثلة ، حتى لا يدع  إشكالاً يمكن أن يؤدي إلى لبس أو إبهام .

        ويمكن لكل واحد منا أن يتذكر من حياته الخاصة في هذا الزمان – بل وفي كل زمان – بعض الحوادث المشابهة لما يعرضه لنا الإمام العلامة ، في العلاقة بين العلماء والأغنياء ، فيقول :

        ( حضرنا بعض أغذية أرباب الأموال ، فرأيت العلماء أذل الناس عندهم ، فالعلماء يتواضعون لهم ويذلون لموضع طمعهم فيهم ، وهم لايحتفلون بهم لما يعلمونه من احتياجهم إليهم .

        فرأيت هذا عيباً في الفريقين :
        أما أهل الدنيا فوجه العتب أنهم كانوا ينبغي لهم تعظيم العلم ، ولكن لجهلهم بقدره فاتهم وآثروا عليه كسب الأموال .

        فلا ينبغي أن يطلب منهم تعظيم ما لا يعرفون ولا يعلمون قدره . وإنما أعود باللوم على العلماء وأقول : ينبغي لكم أن تصونوا أنفسكم التي شرفت بالعلم عن الذل للأنذال ) (9) .
       
عفة العالم من تمام دينه

        ويبين رحمه الله دواء هذا الحال بقوله :
        ( ودواؤه من جهتين :

        إحداهما: القناعة باليسير . كما قيل : من رضي بالخل والبقل لم يستعبد أحد .
         والثاني : صرف بعض الزمان المصروف في خدمة العلم إلى كسب الدنيا . فإنه يكون سبباً لإعزاز العلم ، وذلك أفضل من صرف جميع الزمان في طلب العلم ، مع احتمال هذا الذل .
        ومن تأمل ما تأملته وكانت له أنفة قدَّر قوته ، واحتفظ بما معه ، أو سعى في مكتسب يكفيه .ومن لم يأنف من مثل هذه الأشياء لم يحظ من العلم إلا بصورته دون معناه )(10) .
       
علماء الســــوء

        ويحمل ابن الجوزي بشدة على علماء السوء الذين انشغلوا بالشكل عن الجوهر والتفتوا إلى الصورة دون استيعاب المقصو فيقول : ( رأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم دون فهم حقيقته ومقصوده . فالقارئ مشغول بالروايات ، عاكف على الشواذ ، يرى أن المقصود نفس التلاوة ، ولا يتلمح عظمة المتكلم ، ولا زجر القرآن ووعده .
        وربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه ، فتراه يترخص في الذنوب ، ولو فهم لعلم أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ .

        والمحدث يجمع الطرق ، ويحفظ الأسانيد ، ولا يتأمل مقصود المنقول ، ويرى أنه قد حفظ على الناس الأحاديث ، فهو يرجو بذلك السلامة . وربما ترخص في الخطايا ظناً منه أن ما فعل في خدمة الشريعة يدفع عنه .

        والفقيه قد وقع له أن بما عرف من الجدال الذي يقوى به خصومه ، أو المسائل التي يفتي بها الناس مايرفع قدره ، ويمحو ذنوبه .

        فربما هجم على الخطايا ظناً منه أن ذلك يدفع عنه . وربما لم يحفظ القرآن ولم يعرف الحديث ، ولم يدْر أنهما ينهيان عن الفواحش بزجر ورفق .
        وينضاف إليه مع الجهل بهما حب الرياسة ، وايثار الغلبة في الجدل ، فتزيد قسوة قلبه .
        وعلى هذا أكثر الناس ، صور العلم عندهم صناعة ، فهي تكسبهم الكبر والحماقة ) (11) .  
        وهذه صور سادت في مجتمع ابن الجوزي من قرون عديدة خلت وفي عصرنا هذا ما تضيق الصفحات الطويلة على وصفه وذكر وقائعه ، واللبيب قادر على تفهم مراد الشيخ وإدراك مقصده .

علماء الســـلف

        ثم يثني في موضع آخر على علماء السلف ، بما خلّفوه من تصانيف غنية هي حصيلة أعمارهم ، فجاء بعدهم خلف أضاعوها وفرطوا بها ، واستغنوا عنها بالمختصرات والمخلصات فحرموا أنفسهم ومن بعدهم من خير كثير وذلك لقصور همتهم ولضعف نشاطهم .

        يقول الشيخ :
        ( كانت همم القدماء من العلماء علية ، تدل عليها تصانيفهم التي هي زبدة أعمارهم .
        إلا أن أكثر تصانيفهم دثرت ، لأن همم الطلاب ضعفت ، فصاروا يطلبون المختصرات ، ولا ينشطون للمطولات ، ثم اقتصروا على مايدرسون    من بعضها ، فدثرت الكتب ولم تنسخ .
        فسبيل طالب الكمال في طلب العلم ، الاطلاع على الكتب التي تخلفت من المصنفات ، فليكثر من المطالعة فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد ، وما يخلو كتاب من فائدة .
        وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم ، لا ترى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدي ، ولا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد . ) (12).
       
نصيحة للعلماء

        وفي الختام يتوجه العالم الجليل بنصيحة يقرع بها آذان الذين ينصبون أنفسهم للناس بما لديهم من علم ، وهم في الحقيقة يتباهون ويمارون به السفهاء ، فيقول :
        ( ياقوم قد علمتم: أن الأعمال بالنيات ، وقد فهمتم قوله تعالى : " ألا لله الدين الخالص " (13)          وقد سمعتم عن السلف أنهم كانوا لا يعملون ولا يقولون حتى تتقدم النية وتصح .

        أيذهب زمانكم يافقهاء في الجدل والصياح ؟
        وترتفع أصواتكم عند اجتماع العوام تقصدون المغالبة ؟ أوما سمعتم " من طلب العلم ليباهي به العلماء ، أو ليماري به السفهاء ، أو ليصرف به وجوه الناس إليه ، لم يرح رائحة الجنة " (14) .
        ثم يقدم أحدكم على الفتوى وليس من أهلها ، وقد كان السلف يتدافعونها .
        أفيقوا من سكركم ، وتوبوا من زللكم ، واستقيموا على الجادة " أن تقول نفسٌ ياحسرتى على مافرّطت في جنب الله "(15). ) (16) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشــي :
(1) صيد الخاطر – للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن محمد الجوزي ، طبعة/ دار الكتب العلمية – بيروت لبنان / بدون تاريخ .
(2) ابن الجوزي : هو عبد الرحمن بن محمد الجوزي القرشي البغدادي ، أبو الفرج ، علامة عصره في التاريخ والحديث ولد سنة ( 508 هـ = 1114 م ) في بغداد وفيها توفي سنة (597 هـ = 1201 م ) وترك نحو ثلاثمائة مصنف .
(3) سورة الحشر آية 9 .
(4) سورة الحشر آية 10 .
(5) صيد الخاطر ص 17 .
(6)-(7)-(8)- (9)- (10)- (11)- (12)-   نفس المصدر ص/ 143-144-144-209-211-436-440 .
(13) سورة الزمر آية 3 .
(14) ورد الحديث في الترغيب والترهيب للمنذري بالنص التالي : ( عن كعب بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من طلب العلم ليجاري به العلماء ، أو ليماري به السفهاء ، ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار ) رواه الترمذي ، واللفظ له ، وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وغيره ، والحاكم شاهداً والبيهقي ، وقال الترمذي ، حديث غريب ، كما روى ابن ماجه وابن حيان والبيهقي روايات قريبة للحديث السابق - .
(15) سورة الزمر آية 56 .
(16) صيد الخاطر ص 4
رياج ططــــري