domingo, 13 de mayo de 2012

حِـــــــــــــوار


حِـــــــــــــوار


       سكت بُرهة ثم قال : " ولكن ألست تتعب نفسك في نُصح الخلق ، وتحرص على هدايتهم كما لو أنك ستنال جزاءً عاجلاً على فِعلك ، أو كأنك ستحصل على مَنفعة آنِيّة من جَرّاء صنيعك هذا ؟

        قُلت : ( سُبحانَ مَنْ ألقى في قلبي نُصح الخلق ، وجعله أكبرَ همّي ، أني ناصحٌ ولا أريد على ذلك جزاءً ، أجرتي قد حصلتْ لي عند رَبّي عَزَّ وجَلَّ ، ما أعبد إلا الخالق الواحد الأحد القديم ) لِسانُ حالي يقول : ( فَرحي بِفلاحكم وغمّي لِهلاككم ) .
        حَرّكَ رأسَه يُمنةً وَيُسرةً وفي فمه تساؤل .. يتردد في طَرحه .. وَلَبثَ على حاله هذه هنيهة .. ثم أردف قائلاً :

        " وكأني لا أدري مَغزى كلامك السابق .. وكأنك تقولُ لي بأنك لست تفعل ما تفعل إلا وغايتك الله لا سِواه .

        نعم هُوَ ذاك ( فالعبدُ إذا عرف الله عَزَّ وجّلَّ سقط الخلق مِن قلبه ، وتناثروا عنه كما يتناثر الورق اليابس من الشجر ، فيبقى بلا خلق في الجملة ، يعمى عن رؤيتهم ، ويَصمّ عن سماع كلامهم من حيث قلبه وسره ) .

        ولكن قُلْ لي بحق الله عليك ، وهل إلى ما أنتَ عليه .. مِن سبيلٍ للوصول إليه ؟
        وكيفَ لا ؟! والطريق واضح .. طويلٌ طويل .. ولكنه يبدأ بخطوة واحدة إنه ( فَنٌّ مُتقَن غايةَ الإتقان ، ونظامٌ دقيق صارم ، يبدأ بالزهد أولاً ، إذ أنه من المستحيل على الإنسان أن يَلِج المملكة الرَّبّانية دون التدريب على الزهد متاع الدنيا ، مثلما هُوَ مُستحيل على الإنسان أن يُصبح رياضياً دون أي تدريب بدني ، ولما كان التدريب على الزهد شاقاً للغاية فإن رجالاً قلائلَ جداً هم الذين يملكون الشجاعة الكافية على التقدم " للربّانِيَة " ، فإن الرجل الذي يعتزم القيام بهذه المهمة الصعبة ، والرحلة الشاقة ، يجب أن ينبذ متاع هذا العالم ، وأخيراً ، نفسه .

        ورُبّما كان عليه بعد ذلك أن يعيش طويلاً في ظلال الليل الروحي ، وبينما هُوَ ينشد السُموّ الروحي مِن خالقه ، ويَحزن لفساد نفسه وَضَعَتها ، فإنه يُكابد تنقية حواسه ، وتلك هي أول وأخطر مرحلة من مراحل الرحلة الربانية ، وهكذا يُعظم الرباني نفسه من نفسه .. فتنقلب صلاته تأمُلاً ، ويدخل الحياة المثيرة ، ولكنه لا يستطيع وَصْف ما يَمر به مِن تجارب لأن عقله يهرب من الفراغ والزمن ) .
        - إني جد حائر من إجابتك المباشرة هذه ، لقد أخذتني بعيداً بعيداً ، وأنا لم أقف بعد على المحجة البيضاء في صِدق النبوة ، أفليس لديك دليلاً خارجياً تُعينني فيه ، لكي يطمئن قلبي ، ويكون لي حجة على غيري ؟

        -  أما حيرتك من الإجابة المباشرة فربما لك الحق بها ، ولكن ما أتيت به بعد ذلك لا تقوم له قائمة إذ ( أن المؤمن ليس بحاجة إلى دليل خارجي على صِدْق إذا كان صحيح المزاج ، مستقيم الطبع ، إذ دليله في نفس المستمع ، وعلى ذلك يقوم نظام الحياة ، فهل إذا دعوت عطشان إلى الماء وقلتَ له إن هذا القدح ماء ، هل يقول لك : أينَ الدليل وكيف أؤمن بدعوتك وأصدق كلامك ؟ ..

        وهل إذا دعت الأم الحنون طِفلها الرضيع لِيرتضع مِن ثديها ، قال الطفل ، هاتِ الدليل ياأمي أروي نفسي وأشبعها ؟

        إن وجود العطش في نفس العطشان  ، ووجود الجوع في الرضيع ، ووجود الإخلاص في الداعي لَكفيلٌ بالتصديق ، مُغنٍ عن كل دليل ) .

        - ولكن ألا تسمع كلامً المنكرين ؟ ..

        - نعم ... ولكن علينا أولاً أن ندرك أن ( المعارضة كالموازنة والمكايلة فمتى قوبلت بأخبار من وزن أخبارك ومخرجها ومجيئها فتلك هي المعارضة.

        - وهذا ما نحفل به ونعول عليه – وأما الإنكار فليس بحجة كما أن الإقرار ليس بحجة .. إنما الحجة في المجيء الذي لا يمكن في الباطل مثله .. ) .

        أرأيت حقاً أنصع ، وحجة أبهر وسبيلاً أقوَم من ذلك الذي أتى به القرآن الكريم .. إن الله يدعو القلب الضعيف لكي يتعلق به ويشتد به أزره في مقابلة الصِعاب  ومكافحة نوائب الدهر ، وَنَوازِله .. إذ أنَّ ( في القلبِ شَعْثٌ لا يَلمُّهُ إلا الإقبالُ على الله ، وفيه وِحشةٌ لا يُزيلها إلا الأنْسُ بِهِ في خَلْوته ، وفيهِ حُزنٌ لا يُذهِبُهُ إلا السُرور بمَعْرِفته وَصِدْق مُعامَلَتِهِ ، وفيه نيرانُ حَسَراتٍ لا يُطْفِئها إلا الرِضى بأمره وَنهيِهِ وقضائهِ ، وَمُعانقةِ الصبْر على ذلك إلى وَقتِ لقائِهِ .. وفيه قَلقٌ لا يُسكِتُهُ إلا الاجتماع عليه والفِرار منهُ إليهِ ، وفيهِ طَلَبٌ شديدٌ لا يَقِفُ دونَ أن يكونَ هُوَ وَحْدَهُ مَطلوبه .. وفيهِ فاقةٌ لا يَسُدّها إلا مَحَبَّتهُ والإنابة إليه ودوام ذِكرهِ وَصِدْق الإخلاص لَهُ وَلوْ أعطِيَ الدُّنيا  وما فيها لَمْ تُسدّ هذه الخلة أبداً .. فالَتفرقُ يوقِعُ وحشَةَ الحجاب ، وألمٌ أَشَدُّ من ألمَِ العَذاب ) .     
  
رياج ططري       


                                                                                                       

No hay comentarios:

Publicar un comentario