sábado, 14 de mayo de 2011

العُلماء


العُلماء
( عند ابن الجوزي في صيد الخاطر )

في كتابه القيم " صيد الخاطر " (1)   يعرض لنا العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد الجوزي (2) من علماء القرن السادس الهجري أحوال العلماء الذين هم مظنة الخير والصلاح في أمة الاسلام فيقول :

علماء الدنيا وعلماء الآخرة :

تأملت التحاسد بين العلماء ، فرأيت منشأه من حب الدنيا ، فإن علماء الآخرة يتوادون ولا يتحاسدون ، كما قال عز وجل " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا (3) " وقال تعالى : " والذين جاءوا من بعدهم يقولون : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذن سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا (4) " .
        وعلماء الدنيا ينظرون إلى الرياسة فيها ، ويحبون كثرة الجمع والثناء ، وعلماء الآخرة بمعزل من ايثار ذلك ، وقد كانوا يتخوفونه ، ويرحمون من بلي به ، وهو الفارق بين الفئتين (5) .

تفاوت العلماء وأنفعهم :

        ويحكي الشيخ رأيه في العلماء وأصنافهم وتفاوتهم في العلم والعمل فيقول :
( لقيت مشايخ ، أحوالهم مختلفة يتفاوتون في مقاديرهم في العلم . وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه وإن كان غيره أعلم منه) (6) .

أصناف العلماء :

        ويعرض لنا أصنافاً من العلماء تلقى عنهم العلم ، ويبين لنا لماذا تأثر بهم دون سواهم : ( لقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون ، ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح وتعديل ، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة ، ويسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه إن وقع خطأ .

        ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة ، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث ، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه .

        فكان – وأنا صغير السن حينئذ – يعمل بكاؤه في قلبي ، ويبني قواعد الأدب في نفسي ، وكان على سمت المشايخ  الذين سمعنا أوصافهم في النقل .

        ولقيت الشيخ منصور الجواليقي ، فكان كثير الصمت ، شديد التحري فيما يقول ، متقناً محققاً . وربما سئل عن المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض

غلمانه فيتوقف فيها حتى يتقين . وكان كثير الصوم والصمت فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما .  ففهمت في هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول . (7)  )
       
وأصناف آخرون

        ثم يذكر الإمام ابن الجوزي أصنافاً آخرين من العلماء اتصفوا بأوصاف تتنافى وطبيعة العلم الذي يحملونه ، ثم يؤكد على أن العلم بالعمل هو الأصل الأكبر فيقول :
        ( ورأيت مشايخ كانت لهم خلوات في انبساط ومزاح ، فراحوا عن القلوب وبدد تفريطهم ماجمعوا من العلم ، فقل الانتفاع بهم في حياتهم ، ونُسوا بعد مماتهم ، فلا يكاد أحد أن يلتفت إلى مصنفاتهم .

        فالله الله في العلم بالعمل فإنه الأصل الأكبر . والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به ففاتته لذات الدنيا ، وخيرات الآخرة ، فقدم مفلساً مع قوة الحجة عليه ) .(8)

الغنى عافية للعلماء

        وفي فصل آخر يعالج مسألة من أدق المسائل وأخطرها على العلماء والدعاة ، فيبسط القول فيها ، ويضرب الأمثلة ، حتى لا يدع  إشكالاً يمكن أن يؤدي إلى لبس أو إبهام .

        ويمكن لكل واحد منا أن يتذكر من حياته الخاصة في هذا الزمان – بل وفي كل زمان – بعض الحوادث المشابهة لما يعرضه لنا الإمام العلامة ، في العلاقة بين العلماء والأغنياء ، فيقول :

        ( حضرنا بعض أغذية أرباب الأموال ، فرأيت العلماء أذل الناس عندهم ، فالعلماء يتواضعون لهم ويذلون لموضع طمعهم فيهم ، وهم لايحتفلون بهم لما يعلمونه من احتياجهم إليهم .

        فرأيت هذا عيباً في الفريقين :
        أما أهل الدنيا فوجه العتب أنهم كانوا ينبغي لهم تعظيم العلم ، ولكن لجهلهم بقدره فاتهم وآثروا عليه كسب الأموال .

        فلا ينبغي أن يطلب منهم تعظيم ما لا يعرفون ولا يعلمون قدره . وإنما أعود باللوم على العلماء وأقول : ينبغي لكم أن تصونوا أنفسكم التي شرفت بالعلم عن الذل للأنذال ) (9) .
       
عفة العالم من تمام دينه

        ويبين رحمه الله دواء هذا الحال بقوله :
        ( ودواؤه من جهتين :

        إحداهما: القناعة باليسير . كما قيل : من رضي بالخل والبقل لم يستعبد أحد .
         والثاني : صرف بعض الزمان المصروف في خدمة العلم إلى كسب الدنيا . فإنه يكون سبباً لإعزاز العلم ، وذلك أفضل من صرف جميع الزمان في طلب العلم ، مع احتمال هذا الذل .
        ومن تأمل ما تأملته وكانت له أنفة قدَّر قوته ، واحتفظ بما معه ، أو سعى في مكتسب يكفيه .ومن لم يأنف من مثل هذه الأشياء لم يحظ من العلم إلا بصورته دون معناه )(10) .
       
علماء الســــوء

        ويحمل ابن الجوزي بشدة على علماء السوء الذين انشغلوا بالشكل عن الجوهر والتفتوا إلى الصورة دون استيعاب المقصو فيقول : ( رأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم دون فهم حقيقته ومقصوده . فالقارئ مشغول بالروايات ، عاكف على الشواذ ، يرى أن المقصود نفس التلاوة ، ولا يتلمح عظمة المتكلم ، ولا زجر القرآن ووعده .
        وربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه ، فتراه يترخص في الذنوب ، ولو فهم لعلم أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ .

        والمحدث يجمع الطرق ، ويحفظ الأسانيد ، ولا يتأمل مقصود المنقول ، ويرى أنه قد حفظ على الناس الأحاديث ، فهو يرجو بذلك السلامة . وربما ترخص في الخطايا ظناً منه أن ما فعل في خدمة الشريعة يدفع عنه .

        والفقيه قد وقع له أن بما عرف من الجدال الذي يقوى به خصومه ، أو المسائل التي يفتي بها الناس مايرفع قدره ، ويمحو ذنوبه .

        فربما هجم على الخطايا ظناً منه أن ذلك يدفع عنه . وربما لم يحفظ القرآن ولم يعرف الحديث ، ولم يدْر أنهما ينهيان عن الفواحش بزجر ورفق .
        وينضاف إليه مع الجهل بهما حب الرياسة ، وايثار الغلبة في الجدل ، فتزيد قسوة قلبه .
        وعلى هذا أكثر الناس ، صور العلم عندهم صناعة ، فهي تكسبهم الكبر والحماقة ) (11) .  
        وهذه صور سادت في مجتمع ابن الجوزي من قرون عديدة خلت وفي عصرنا هذا ما تضيق الصفحات الطويلة على وصفه وذكر وقائعه ، واللبيب قادر على تفهم مراد الشيخ وإدراك مقصده .

علماء الســـلف

        ثم يثني في موضع آخر على علماء السلف ، بما خلّفوه من تصانيف غنية هي حصيلة أعمارهم ، فجاء بعدهم خلف أضاعوها وفرطوا بها ، واستغنوا عنها بالمختصرات والمخلصات فحرموا أنفسهم ومن بعدهم من خير كثير وذلك لقصور همتهم ولضعف نشاطهم .

        يقول الشيخ :
        ( كانت همم القدماء من العلماء علية ، تدل عليها تصانيفهم التي هي زبدة أعمارهم .
        إلا أن أكثر تصانيفهم دثرت ، لأن همم الطلاب ضعفت ، فصاروا يطلبون المختصرات ، ولا ينشطون للمطولات ، ثم اقتصروا على مايدرسون    من بعضها ، فدثرت الكتب ولم تنسخ .
        فسبيل طالب الكمال في طلب العلم ، الاطلاع على الكتب التي تخلفت من المصنفات ، فليكثر من المطالعة فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد ، وما يخلو كتاب من فائدة .
        وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم ، لا ترى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدي ، ولا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد . ) (12).
       
نصيحة للعلماء

        وفي الختام يتوجه العالم الجليل بنصيحة يقرع بها آذان الذين ينصبون أنفسهم للناس بما لديهم من علم ، وهم في الحقيقة يتباهون ويمارون به السفهاء ، فيقول :
        ( ياقوم قد علمتم: أن الأعمال بالنيات ، وقد فهمتم قوله تعالى : " ألا لله الدين الخالص " (13)          وقد سمعتم عن السلف أنهم كانوا لا يعملون ولا يقولون حتى تتقدم النية وتصح .

        أيذهب زمانكم يافقهاء في الجدل والصياح ؟
        وترتفع أصواتكم عند اجتماع العوام تقصدون المغالبة ؟ أوما سمعتم " من طلب العلم ليباهي به العلماء ، أو ليماري به السفهاء ، أو ليصرف به وجوه الناس إليه ، لم يرح رائحة الجنة " (14) .
        ثم يقدم أحدكم على الفتوى وليس من أهلها ، وقد كان السلف يتدافعونها .
        أفيقوا من سكركم ، وتوبوا من زللكم ، واستقيموا على الجادة " أن تقول نفسٌ ياحسرتى على مافرّطت في جنب الله "(15). ) (16) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشــي :
(1) صيد الخاطر – للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن محمد الجوزي ، طبعة/ دار الكتب العلمية – بيروت لبنان / بدون تاريخ .
(2) ابن الجوزي : هو عبد الرحمن بن محمد الجوزي القرشي البغدادي ، أبو الفرج ، علامة عصره في التاريخ والحديث ولد سنة ( 508 هـ = 1114 م ) في بغداد وفيها توفي سنة (597 هـ = 1201 م ) وترك نحو ثلاثمائة مصنف .
(3) سورة الحشر آية 9 .
(4) سورة الحشر آية 10 .
(5) صيد الخاطر ص 17 .
(6)-(7)-(8)- (9)- (10)- (11)- (12)-   نفس المصدر ص/ 143-144-144-209-211-436-440 .
(13) سورة الزمر آية 3 .
(14) ورد الحديث في الترغيب والترهيب للمنذري بالنص التالي : ( عن كعب بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من طلب العلم ليجاري به العلماء ، أو ليماري به السفهاء ، ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار ) رواه الترمذي ، واللفظ له ، وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وغيره ، والحاكم شاهداً والبيهقي ، وقال الترمذي ، حديث غريب ، كما روى ابن ماجه وابن حيان والبيهقي روايات قريبة للحديث السابق - .
(15) سورة الزمر آية 56 .
(16) صيد الخاطر ص 4
رياج ططــــري 

No hay comentarios:

Publicar un comentario