miércoles, 23 de febrero de 2011

حكمة الداعية



إن العمل المنظم فن من الفنون التي تشترك في تكوينها عوامل مختلفة وتخرجها إلى الواقع اعتبارات وظروف مركبة .

لذا فإن شروطاً يجب أن تتوفر بداية لكي يتحقق النجاح لأي عمل إنساني منشود . والعمل الإسلامي لا يختلف عن سواه من التنظيمات في ضرورة استكمال الشروط والعوامل على الوجه المطلوب حتى يتسنى له الوصول إلى الغاية المرجوة وتحقيق الأهداف المرسومة .

ولا بد هنا من التركيز على دور الداعية في إحكام التنظيم وترسيخه ، فلا يكفي فهمه للأفكار وهضمه لها ، أو إحسان إلقاء الدرس أو الخطبة - مع أنها عوامل ضرورية لنجاح الداعية في نقل فكرته ورسالته للناس - إلا أنه لا بد من توفر مستلزمات أخرى تضاف إلى هذه الشروط :

أولها : معرفة الداعية لأحوال المجتمع الذي يدعو فيه ، من حيث الأفكار والعادات والتنظيمات الاجتماعية والسياسية المؤثرة فيه ، وإحساسه بشعور الناس ومواقفهم تجاه الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيه ، معرفةً موضوعية يحدد فيها بدقة الخريطة الميدانية التي سيعمل بمقتضاها ، وكلما تحرى الحق والعدل في رسم معالم صورة المجتمع والعوامل الفاعلة فيه ، كلما استطاع أن يبني دعائم عمل موفق ناجح .

ثانيها : تمسك الداعية بتعاليم الإسلام وقيمه في كل الأحوال والمجالات ، وعدم التفريط بشيء منها تحت وطأة أي ظرف من الظروف ، حتى يشعر الناس من خلال الاحتكاك به : صدق التزامه ، وتوافق سلوكه مع ما يعتقد به ويدعو إليه ، عندها فقط يكسب ثقة الناس واحترامهم وتقديرهم ، الأمر الذي يفتح أمامه أبواب الانقياد والطاعة لما يدعو إليه من عمل وفكر ورسالة .

ثالثها : إن العمل المنظم يحتاج لرسم خطة شاملة تحدد الإطار الذي يتحرك فيه الداعية ، ومن يسير معه في العمل ، وبرامج تنفيذية تحقق الأهداف المرسومة في المناحي المختلفة ، مع الأخذ بعين الاعتبار التزامها بقواعد الإسلام ، وملاءمتها للظروف والأوضاع القائمة في الوسط الذي ينشط فيه .
ومن المفيد الإشارة إلى ضرورة تسجيل المعطيات التي يجمعها الداعية وعرضها على العاملين معه لتحليلها ومناقشتها قبل الشروع بتنفيذ أية مرحلة من مراحل الخطة أو البرنامج ، وبذلك يكون الجميع على بيّنة بكل تفاصيل العمل الذي يراد تنفيذه ، بل ويكون سبباً في نجاحه .

رابعها : التصرف الحكيم عند تقرير موقف ما ، أو تنفيذ خطة معينة أو برنامج محدد . إذ تقتضي الحكمة وضع الشيء في موضعه ، وهذا أمر لا يأتي اعتباطاً ، إنما يحتاج لخبرة ودراية وصقل للتجارب التي يمر بها الداعية وممارسة واعية للعمل الذي يقوم به ، وهي موهبة ربانية منَّ اللَّه بها على بعض الناس دون سواهم : { ... وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ... } [ البقرة : 269 ] .

إن الشروط المذكورة آنفاً ، ليست بالغريبة على معظم العاملين في حقل الدعوة الإسلامية ، غير أن الشرط الأخير يحتاج منا لعناية وبسط ، لأهميته القصوى في الممارسة اليومية لعمل الداعية . إن العمل الإسلامي ليس عملاً يستطيع كل إنسان أن يحرز النجاح فيه ، دون التحلي بمواصفات معينة توفر له ذلك ، ومن بينها الحكمة في اتخاذ المواقف المناسبة واستخدام الأساليب الموائمة .
والعاملون في الدعوة يتفاوتون في خبراتهم وملكاتهم وصفاتهم الشخصية ، ولا تأخذ صفةُ الحكمة لديهم مكانها إلا بعد أن يخوضوا أجواء الدعوة ويعانوا من همها ، ويحسوا أفراحها وأحزانها .. عندها فقط يمتلكون الخبرة وتصقل مواهبهم من خلال تراكم التجارب التي مروا بها واكتسبوها من طول الممارسة على مرِّ الزمن .

بل نستطيع أن نجزم بأن الممارسة تبصّر الداعية بالصفات الحسنة التي لديه ، فيقبل عليها صقلاً وإحساناً ، وتلفت نظره لنقاط النقص لديه أو الضعف فيه ، فيتخذ الأسباب لتلافيها إن كانت نقصاً أو تقويتها إن كانت ضعفاً .

وهنا نقرر بوضوح وجلاء بأن المعرفة العميقة بثقافة الدعوة ، وإحاطة الداعية بأساليب العمل وخطوطه المعروضة في الكتب والمراجع ، لا تكفل صقل شخصيته إن لم يمارس ذلك بنفسه في واقع الحياة المتحرك المتجدد ، واكتفاؤه في الإطلاع النظري عليه بل وإتقانه حفظاً وترتيباً في ذهنه ، لا يوفر له نصيباً عملياً إن لم ينزّل هذه الدراية في المجال العملي ، وهذا أمر واقع نراه في مختلف شؤون الحياة ، يأخذ الناس به وخاصة في مجال المهن والحرف ومزاولتها . حيث لا يُسلم إنسان قيادة حافلة أو قطار أو طائرة لمجرد المعرفة النظرية لقواعد قيادتها فحسب ، إنما يطمأن إليه ويسلم قيادة مثل هذه الآلات المتحركة بعد أن يمارس قيادتها بنفسه فعلاً ، ويثبت ذلك بجدارة .. وهكذا ينطبق المثل في شأن الداعية في قيادته لشريحة أو قطاع من قطاعات الأمة . فإن لم يمارس بنفسه تنفيذ البرامج وتطبيق التوجيهات التي درسها في صورة عملية ، لن يكسب التجارب المختلفة التي قد تكون مواتية في حالات معينة ، ومعقدة في حالات أخرى .

وهو في هذه الممارسة المتفاوتة في الظروف والأحوال يخرج بثروة هائلة من الخبرة العملية القيّمة ، التي قد تضعه في مصاف القادة الناجحين إذا ما استجمع بقية شروط القيادة .
هذا ونشير هنا إلى قضية بارزة ، ومظهر من مظاهر الحكمة في شخصية الداعية ألا وهو التريث في تقرير المواقف ، وعدم التسرع في اتخاذ أمر في مشروع أو عمل قبل أن يدرسه دراسة متأنية في وسطه ، ومع من سيطبق عليهم سواء من الذين ينفذونه معه ، أم أولئك الذي سيكونون موضع التأثر به .

وربما دفع الداعيةَ حبُّه لإنجاز العمل ، أو ساورته رغبة في منافسة لكسب ساحة ما ، فسارع ارتجالاً في اتخاذ قرار ، لو تأمل فيه ملياً لتخلى عنه أو ربما لأرجأ تنفيذه لوقت مناسب .

وكذلك تأتي تبعاً للتسرع مفاتحة من ليس بمستوى المفاتحة بأمور التنظيم وتفاصيله ، مما قد يؤثر سلبياً على مسيرة العمل أو على حد أدنى إضاعة الوقت والجهد فيما لا طائل من ورائه .

ولكبح جماح النفس ، وعدم التسرع يُحبّذ للداعية مراجعة الأمر قبل تنفيذه مع من يثق بهم في الدين والرأي ، وخاصة عدم اندفاعه في التصريحات والخطب والكلمات فيما يخالف خطوط العمل الدعوي التي يسير عليها .

وحبذا لو اصطحب بعض من يأنس برأيهم إلى مكان النشاط الذي يقوم به ، ليكونوا له ناصحين بل مرآة يرى عمله من خلال عيونهم .

ورأس الحكمة في الممارسة ، أن يتذكر الداعية قبل مباشرته لأي عمل بأنه لا يمثل نفسه ، بل يمثل الدعوة إلى اللَّه تبارك وتعالى ، فيحرر الخطوة الأولى في عمله ألا وهي الإخلاص والنية الصادقة المحتسبة لله تعالى ، وليعلم بأن المكاسب أو الخسائر التي يمنى بها لا يقتصر تأثيرها عليه وحدهُ ، إنما تعم الدعوة بأسرها نظراً لما للصلة الوثيقة بين الداعية والدعوة .

كما أن الانطباع الذي يؤخذ عن سلوكه ومواقفه وأعماله لا يؤثر في حدود شخصه ، إنما يسري تأثيره إلى كيان الدعوة بأسرها ، وكم رأينا وسمعنا اتهام الدعوة باتهام ممثليها ؛ ألا وهم الدعاة إلى اللَّه تعالى .
ونشير هنا إلى أمر يقع فيه الإنسان ، كل إنسان عادة ، والداعية بوصفه إنساناً يعيش بإحساساته كلها ، يتأثر بالحوادث والعلاقات الخاصة سلباً أو إيجاباً ، إذ ربما لاقت في نفسه حادثة معينة استحساناً ، وهي ليست من مصلحة الدعوة والإسلام في شيء ، أو بالعكس إذا صادفت حادثة أخرى في نفسه تردداً وانكماشاً وكان فيها خير كثير للدعوة والعمل الإسلامي .

بالتحديد : ربما كانت له علاقة إيجابية مع شخص معين حُبِّبَّ إليه ، غير أنه في مقياس وشروط الدعوة ليس من الصالحين ، ليكون مع الميامين من العاملين ، وربما يفرط نظراً لما في نفسه نحو شخص آخر من نظرة سلبية معينة . وهو داعية من الدعاة ، فيكون سبباً لحرمان ذلك الشخص من نعمة أن يصبح حجراً راسخاً في كيان الدعوة .

ومن مظاهر حكمة الداعية ، بالإضافة للاستفادة من تجاربه ، اغتنام تجارب الآخرين ، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها . يأخذ ما لديه وما لدى غيره ، ويعرضها جميعاً بكل إنصاف وموضوعية على مقاييس الإسلام ومعاييره ، والدعوة وظروفها ومراحلها .. يغور في أعماق الأفعال والأقوال ، مستعيناً على قضاء حوائجه بالكتمان ، ويستهدي دوماً بقوله تعالى : { ... وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً } [ الإسراء : 11 ] فلا يتحرك إلا بروية وهدوء . وبقوله تعالى : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } [ القيامة : 16 ] . جاء في التفسير : “ أي يا محمد r لا تنازع جبريل القراءة مسارعة منك إلى الحفظ وخوفاً من فوات شيء منه عليك ، فاللَّه عزَّ وجلَّ ينهاك ويأمرك بالإنصات إلى ما يلقى على قلبك وسمعك ، وطمأنه بعد ذلك بأنه هو الذي يتكفل حفظ القرآن وجمعه وقرآنه : { إِن عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ } [ القيامة : 17 ] ” . وكذلك أمر الدعوة إلى اللَّه تعالى ، يحتاج إلى الصبر والأناة والحكمة معاً ، فإن توفرت فيه هذه الشروط فإن اللَّه تعالى سيبارك في العمل ، ويجعل فيه الخير العميم ، وتظهر آثاره الطيبة في الوسط الذي يعمل فيه الداعية ، بل وفي أوساط ربما لا يعلم بها هو نفسه ، وهذا من توفيق اللَّه تبارك وتعالى.
رياج ططري

No hay comentarios:

Publicar un comentario