miércoles, 23 de marzo de 2011

هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهـكـذا عـادت القـدس " * "


كتاب في مقال

" في هذه الظروف الحرجة ، التي تلتبس فيها المفاهيم ، وتختلط الصور ولا تبين الحقائق على وجهها الصحيح نقدم للإخوة القراء ، مطالعة لكتاب الدكتور ماجد عرسان الكيلاني في مقدمته وفصوله العشرين ، وهو محاولة طيبة لدراسة عملية تغييرية هامة في تاريخنا الاسلامي ".


حين نناقش التحديات التي تواجه المسلمين اليوم كثيراً مايستشهد الباحثون والدعاة والمفكرون بانتصارات صلاح الدين ليدللوا على أهمية الروح الاسلامية في مواجهة هذه التحديات والأخطار .
  
        
والأسلوب الذي يتم به هذا الاستشهاد يبدأ باستعراض الحملات الصليبية والمجازر والأهوال التي رافقتت هذه الحملات ، ثم يقفز مدة نصف قرن من الزمان ليتحدث عن حركة الجهاد العسكري التي قادها آل زنكي ثم صلاح الدين والتي انتهت بتحرير البلاد وتطهير المقدسات .
       
  وهذا أسلوب يقود إلى الاستنتاج: إن ماتحتاجه الأمة في معاركها مع التخلف من داخل ، والقوى الطامعة من خارج هو قائد مسلم يستلهم روح الجهاد ويعبئ الصفوف ويعلن المعركة وهذا فهم له خطورته لأسباب :
أولها : أنه يصطدم بالقوانين  القرآنية التي تقرر أن التغيير إلى الأفضل أو الأسوأ لايحدث إلا إذا سبقه تغيير جماعي يقوم به " القوم " لا " الأفراد " لما بالأنفس من مفاهيم واتجاهات ، وإن آثار هذا التغيير تنعكس على ما بالقوم من أحوال سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية في المجالين الداخلي والخارجي بالقدر الذي  يحدث به التغيير المذكور .
والسبب الثاني :  أن هذا الفهم يصرف الأنظار بعيداً عن الأمراض الحقيقية التي تنخر في جسم الأمة من داخلها فتعزز فيها القابلية للتخلف والهزيمة ، ويشغلها بالأعراض الخارجية الناجمة عن تلك الأمراض . أي أن هذا الفهم يضع العاملين أمام خطة من العمل يستحيل إنجازها لأن الأمة ضعيفة من الداخل يستحيل أن تتغلب على الخطر من خارجها ولكن الخطوة الممكنة في حالة الضعف هي معالجة الضعف نفسه ، فإذا شفيت الأمة من أمراضها صارت الخطوة المستحيلة ممكنة .
والسبب الثالث :  أن هذا الفهم يفرز صورة خاطئة قاتلة لدور كل من  القادة والأمة في تحمل المسؤوليات ومواجهة التحديات ، فهو فهم ينمي في نفوس القادة الفردية والانفراد بالتخطيط والتنفيذ ، ويزجهم في صراع مع كل من يحاول المشاركة في الرأي أو العمل في الوقت الذي لايستطيع هؤلاء القادة الانفراد في الرأي أو العمل فينتهون إلى الفشل والإحباط ، أما الأمة ، فإن هذا الفهم يستبعد دورها في المسؤولية ويطمس في عقولها مفهوم المسؤولية الجماعية ويشيع التواكل على القيادات وحدها ، فمهما دعيت إلى التضحية والمشاركة أجاب لسان حالها : إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون !! ومهما تتالت أمام عيونها صور العجز والفشل والهزيمة فإنها تظل متثاقلة إلى الأرض تنتظر حدوث المعجزة وظهور القائد المخلص .. وتتسامر في هويته وشخصيته فلعله المهدي المنتظر ... ولعله .. ولعله ؟!!
         إن البحث في تفاصيل التغيير الحقيقي الذي حدث  في الفترة التي سبقت صلاح الدين ، ونقل الأمة من حالة الاسترخاء والتبلد السلبي إلى المواجهة ، تستدعي الإجابة عن عدد من الأسئلة أهمها :
         ماهي المفاهيم والتصورات والقيم السلبية التي كانت تسود الأمة ؟
         لقد سادت المذهبية في الفكر الإسلامي وحدث الصراع بينها فنشأ عن ذلك الابتعاد عن الأصل ، " الكتاب والسنة " ، وتعددت المفاهيم فتركت آثارها على التربية والتعليم والحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وعملت الطرق الصوفية نخراً في جسم الأمة ، وأخذت في الانحراف والانقسام فأبعدت الناس عن الصواب ، وازدهرت الحركة الباطنية ، وانتشر دعاتها دعاتها في غرب العالم الاسلامي وشرقه ، وأخذوا يثيرون الفتن والقلاقل ومضوا يغتالون الشخصيات التي تعارضهم فقتلوا مئات القادة من الوزراء والعلماء والسلاطين ونشروا الرعب في كل مكان .
         هذا كله أدى إلى فساد الحياة الاقتصادية فقامت وسائل الكسب على أسس غير مشروعة ، فالدولة تفننت في الضرائب حتى أن الحجاج كانوا يدفعون ضريبة مرور في كل بلد يمرون به ، وتفنن التجار في رفع الأسعار ، وأهملت المصالح العامة وانتشرت المجاعات والأوبئة وسادت الرشوة والفساد ، وأصبحت المصائب والفقر والأمراض سمة المجتمعات الاسلامية .
         ومع فساد الحياة الاقتصادية فسدت الحياة الاجتماعية ، فساد اللهو والزنا وشرب الخمر وانتشرت الملاهي والجواري والمغنيات . وأما في الحياة السياسية فانقسمت الدولة إلى دويلات ودب الصراع بينها وسادت الفتن ..
         كل هذا أدى إلى " الاستعداد للهزيمة " وإلى دخول الصليبيين يذبحون الأهالي حتى خاضت خيولهم بدم
الضحايا من الرجال والنساء والأطفال .
       
  يقول  إبن تغري واصفاً الحال :
أحلَّ الكـفر بالإســلام ضيماً
يطول عليه للديـن النحيبُ
فحقُ  ضـائعُ وحـمى مبـاحُ
وسيفُ قاطعٌ ودمٌ صـبيبُ
وكم من مســلم أمسـى سليباً
ومسلمةٍ لها حرمٌ ســليب
أمـورٌ  لو  تأمَّـلـهنّ  َ طفلٌ
لطفّل في عوارضه المشيبُ
أتسبى المســـلماتُ بكل ثغرٍ
وعيشُ المسلمين إذاً يطيبُ
فَقُل لذوي البصائر حيث كـانوا
أجيبوا الله ويحـكم أجيبوا

         وكان دخول الصليبيين هزة اصابت الأفراد والجماعات فأحدثت في مجرى حياتهم تغييراً ، وطرحت التساؤل الكبير هل من حلّ ؟ فنحن أمام مصيرين لاثالث لهما :  فإما أن يغير المجتمع أوضاعه جذرياً من داخله ، وإما أن يستسلم للتحديات التي تنذر بتدميره والإجهازعليه .
         لقد قام في العالم الاسلامي مدرستان إصلاحيتان قادتا عملية التجديد : مدرسة الغزالي ومدرسة الشيخ عبد القادر الجيلاني ولقد نبذ كل من المدرستين التعلق بالدنيا ، والتعصب المذهبي وتلاحمت جهودهما وتكاملت مع بقية المخلصين .
         فأما الغزالي ورواد نهجه ، فقد شخصوا المرض وحددوه بفساد العلماء وانتشار التدين السطحي ، فعملوا جهدهم في تحديد الدواء فكانت ميادينه :
-         العمل على ايجاد جيل جديد من العلماء لايخشى إلا الله .
-         ووضع منهاج جديد للتربية والتعليم .
-         وإحياء رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
-         ونقد السلاطين  ومحاربة الدويلات وتوحيد الكلمة.
-         ومحاربة المادية الجارفة والسلبية الدينية .
-         الدعوة للعدالة الاجتماعية .
-          محاربة التيارات الفكرية المنحرفة .
وأما الجيلاني ومدرسته القادرية ، فقامت على أسس التعليم والتربية دينياً وثقافياً وروحياً واجتماعياً ، ثم من خلال الوعظ انتقدت العلماء والحكام وأخلاق العامة الاجتماعية ودعت لإنصاف الفقراء ، ثم نسقت بين جماعات المسلمين وجعلتهم على كلمة واحدة ، وتصدرت للتيار الباطني والفكري المنحرف .


 وكان من نتائج الإصلاح والتجديد لهاتين المدرستين أن قامت الدولة الزنكية بتولية آق سنقر ، الذي عرف بجهاده وإخلاصه ، ثم خلفه ابنه عماد الدين زنكي ، والذي سار على خطى والده وأظهر نفس الدرجة من الكفاءة والخصال . فتدخل في إزالة الفتنة عام 521 هـ في دار الخلافة بغداد وعاود الكرة مرات ثم ساد التفكير بالحاجة لبناء قيادة جديدة .. فأخذت هذه الدولة تنمو غير أن المتآمرين قتلوا عماد الدين عندما أدركوا أهدافه فخلفه ابنه نور الدين الذي أكمل للدولة الجديدة طابعها المميز وتهيأت لحمل رسالتها الكاملة .


ومنذ أيام نور الدين أصبحت دولة آل زنكي هذه كياناً التف حوله أصحاب الاتجاهات الاصلاحية وتلامذة المدرستين الغزالية والقادرية ، وجعلوا منها دار هجرة تداعوا إليها من جميع الأقطار وفتحوا أبوابها لكل مخلص راغب في العمل في سبيل الله ، مهما تباينت مذاهبهم وانتماءاتهم . ثم وزعوا الأدوار على الأشخاص والجماعات الذين قاموا بمهمة التنفيذ في حدود المفاهيم الادارية السائدة في ذلك العصر .


اعتبرت الدولة الإنسان المسلم هو الدعامة الرئيسية التي يقوم عليها بناء الأمة الاسلامية ومن أجل ذلك تبنت خطة شاملة لإعداد الشعب إعدادً إسلامياً ، وفي هذه اللحظة تكاملت المؤسسات والهيئات فاشتملت على التعليم الذي ركز على الأجيال الناشئة ، واشتملت على التوجيه والإرشاد الذي استهدف توجيه جماهير العامة ، واشتملت على الإعداد العسكري الذي استهدف تعبئة قوى الأمة تعبئة عامة لمواجهة الأخطار والتحديات القائمة ثم انضمت الممالك الأخرى للدولة الجديدة وعبر نور الدين مصر التي استنجد حكامها بالصليبيين وبنور الدين بعضهم على بعض وتابع إلى أن ألغى الخلافة الفاطمية وضم مصر إلى الدولة الاسلامية .


ثم عزم نور الدين على فتح بيت المقدس وأعد منبراً جديداً للأقصى ، ولكن المنية وافته في غمرة الاستعدادات فآل الأمر إلى صلاح الدين كبير رجاله فمضى على نفس الطريق فنازل الصليبيين في موقع إثر موقع حتى دخل القدس الشريف وطلب إلى ابن زنكي أن يلقي الخطبة فبدأ بقوله تعالى" فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " ثم قال :" الحمد لله معز الإسلام بنصره ، ومذل الشرك بقهره ، ومصرف الأمور بأمره ، ومستدرج الكفر بنكره " ثم راح يهنئ الحاضرين بما يسره الله على أيديهم من فتح بيت المقدس الذي من شأنه كذا وكذا ، فذكر فضائله ومآثره ، وأنه أولى القبلتين وثاني المسجدين ، وثالث الحرمين " .


هذه صورة عامة عن الفترة بين احتلال الصليبيين لبلاد المسلمين وبين استعادة صلاح الدين لبيت المقدس ، نصف قرن من الزمان أغفلها الناس وهي تفسير وتحليل لكيفية الإصلاح والتجديد ومساراته التي تقودنا إلى ملاحظة أمرين :


الأمر الأول : أن فترات القوة والمنعة في تاريخنا الاسلامي إنما ولدت حين تزاوج العنصران : الإخلاص في النية والصواب في التفكير والعمل ، فإن غاب أحدهما أو كلاهما ، أو طلق أحدهما الآخر فلا فائدة من الجهود التي تبذل والتضحيات التي تقدم .


الأمر الثاني : أن التاريخ كله – الاسلامي وغيره – برهن على أنه حين تقوم شبكة العلاقات الاجتماعية على أساس الولاء للفكرة فإن  كل فرد في المجتمع يصبح محترماً ومقدساً ، مهما اختلفت آراؤه مع الآخرين ، ويوجه الصراع  إلى خارج المجتمع وتتوحد الجهود وتثمر ، أما حين تتشكل شبكة العلاقات الاجتماعية طبقاً لمحاور الولاء الفردي والعشائري والمذهبي والإقليمي فإن الإنسان يصبح أرخص شيء في داخل المجتمع وخارجه ، ويدور الصراع في داخل المجتمع نفسه ويمزقه إلى شيع يذيق بعضها بأس بعض .


إن وقوفنا على تفاصيل هذا التغيير ومظاهره ومراحله التي جرت في المجتمع الاسلامي سواء في المرحلة التي مهدت للغزو الصليبي آنذاك ، أو المرحلة التي هيأت الأمة لدفعهذا الغزو يقدم لنا الدرس المفيد في محنتنا التي نواجه ، إزاء عوامل الضعف التي تعمل في كياننا من داخل ، والأخطار التي تهددنا من خارج .

( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعملمون ) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس د. ماجد عرسان الكيلاني الطبعة الأولى 1405 هـ - 1985 م  ، الدار السعودية للنشر والتوزيع – جدة . 

رياج ططري
  

No hay comentarios:

Publicar un comentario