lunes, 28 de marzo de 2011

داخل الأمر وخارجه

خاطرة

        قلت : لقد أنهك الأخ المسؤول  في أعمال يمكن أن يقوم بها غيره ، بل ويحسنها عدد كبير من العاملين معه في تحضير هذا النشاط الكبير ، مما ترك على وجهه بصمات الإعياء والشرود من شدة الإجهاد والتعب وتشابك المسؤوليات التي يقوم بها ، وترك انطباعاً سيئاً على الإخوة الذين حوله لجهلهم بسبب عبوسه وتقطب حاجبيه .

        فجأة ، ودون انتظار ، عَقّب مربٍ كبير ، وداعية ممارس خبير كان يسمع كلامي بقوله : سبحان الله .. أترون كيف يكتسب المرء الخبرة ، فتصبح لديه المقاييس غير المقاييس التي كان  يزين بها ، ووجهات النظر غير وجهات النظر التي كان عليها من قبل أن يمارس العمل ذاته !!

        نعم .. إن الذي يمارس العمل من داخله ، ويتذوقه ، ويعرف مشكلاته ليس كمن ينظر إلى الأمر من بعيد فيطلق أحكامه على الأمور والأشياء دون سبر لغورها أو تفحص لتفاصيلها ... إنه لايعرف مشكلات الطيران التي يعاني منها العصفور إلا عصفور مثله .

        قرأت في أحد الكتب التربوية أن من أهل المشرق من الصينيين واليابان من يتعهدون أبناءهم بصنف من العناية فريد من نوعه . إنهم يربونهم على التمهل في إبداء الرأي إن كان الأمر نظرياً بحتاً ، فهم لا يدلون بدلوهم في مسألة ما إلا بعد طول تأمل وتدبر .

        أما إذا كان الأمر بتعلق بشيء عملي فإنهم لايرضون لهم أن يتحدثوا فيه إلا عن تجربة قاموا بها وممارسة خبروا بمقتضاها طبيعة العمل الذي يبدون رأيهم فيه ، وهم يقدمون دوماً صاحب الخبرة القديمة الطويلة على صاحب الخبرة الضحلة المنقطعة .

        إن من البلاء الذي أصابنا أننا نجد الواحد منا يدلي بدلوه في كل موضوع ، ويصدر الأحكام في كل أمر ، طلب منه ذلك أم لم يطلب ، ولو كان الأمر يقتضيالدراية والعلم والخبرة .

        كثيرة هي الأحوال التي لايدرك كنهها إلا من عاش داخلها ومارسها ، فلا يستطيع التحدث عن الجوع من يعيش حياته متخماً من كثرة الطعام والشراب ولا يعلم قبح الرأي إلا من أوتي الحكمة والعلم ..
        إن بعض الأمور لايدركها المرء إلا إذا كان متلبساً بها معانياً لها ومنها ما لا يعرفها إلا إذا كان خارجاً عنها ناظراً إليها بمنظار العلم والخبرة والدراية .

        وما أجمل وأعمق ما قاله ابن حزم في " مداواة النفوس " :

        ( الوجع والفقر والنكبة والخوف ، لايحس أذاها إلا من كان فيها ، ولا يعلمه من كان خارجاً عنها  .
        وفساد الرأي والعار والإثم ، لا يعلم قبحها إلا من كان خارجاً عنها ، وليس يراه من كان داخلاً فيها .
        الأمن والصحة والغنى ، لا يعرف حقها إلا من كان خارجاً عنها ، وليس يعرف حقها من كان فيها .
        وجودة الرأي والفضائل وعمل الآخرة لايعرف فضلها إلا من كان من أهلها ، ولا يعرفه من لم يكن من أهلها . ) "*"
ـــــــــــــــ
"*" ابن حزم : مداواة النفوس ، وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل ، تحقيق : أبو حذيفة ابراهيم بن محمد ، الطبعة الأولى 1987 – مكتبة الصحابة بطنطا .
رياج ططري

No hay comentarios:

Publicar un comentario