ماذا بعد مؤتمر السكان ؟
لن يدخل مؤتمر " السكان والتنمية " الذي نظمته الأمم المتحدة في الآونة الأخيرة في العاصمة المصرية عام 1992 التاريخ لأصالة طروحاته الفنية والعملية . بل سيدخل التاريخ لما طرأ فيه من نقاش عميق للأفكار التي طرحت في برنامجه ، وليس لمحتوى هذا النقاش بعينه وإنما لخصائصه التي برزت واضحة جلية ، وخاصة التحالف العفوي الذي نشأ بين الأديان الكبرى وعلى وجه التحديد بين الإسلام والكاثوليكية بقصد ايقاف الساسة والحكومات المختلفة عن المضي قدماً في مخططاتها بل والسعي لإخضاعها عملياً للالتزام بالمبادئ الدينية .
إن هذا التصرف سيترك في ذاكرة التاريخ بصمة ، بل بصمات ، لن تمحوها الأيام في المدى القصير . لقد أصبح الموقف حدثاً تاريخياً يحمل في طياته معان بعيدة الغور ، تحتاج لتفكير عميق من كل الأطراف المعنية .
إن الطروح التي دار حولها النقاش ليست بسيطة – كما يعرضها بعض الساسة – فالمشكلة العويصة لا تكمن في " الإجهاض " ، الذي هو بحد ذاته موضوع معقد ودقيق ، بل إن الأمر يذهب إلى أبعد من ذلك ، فهو يؤثر على عملية التناسل البيولوجي ، وعلى الجنس بحد ذاته ، وعلى وضع المرأة ، وبالتالي وضع الرجل ، وحقوق الشباب .. ومعنى ذلك تعريض بنية الأسرة للهدم من القواعد .
بل قد يصل الأمر إلى محتوى التربية الجنسية ، وبالتالي تربية الشخصية الإنسانية ، وفي نهاية المطاف سنصل إلى تحديد العلاقة بين الدولة والأسرة والفرد وفق منظور جديد يستغني كلياً عن مفهوم الدين وقميه .
إن دفع المرأة – تحت شعار المطالبة بحقوقها – لتهدم نظام الأسرة المستقر المتضامن الذي يقوم على التكافل والتراحم والسكن في إطار توزيع المسؤوليات بين أفرادها ، يهدف لجعلها أداة طيعة في أيدي تجار الإغراء وأصحاب النزعة الفردية المطلقة التي لا حدود لها .
كما أن دفع الشباب للنهم من الجنس الحر ، بلا رباط ولا نظام ، سيؤدي لا محالة إلى تجاوز كل الممنوعات ، وتحطيم كل القيم ، في عالم يتغير بسرعة فائقة مما سيقود إلى انهيار عام في الأخلاق والنظم الاجتماعية الخيرة .
إن الموقف الديني المتضامن ، على الرغم من عدم التخطيط المسبق له هز أركان الحملة الشعواء التي تهدف إلى تغيير السلوك الاجتماعي لدى الشعوب ، وذلك بتبني هذه البرامج المطروحة من قبل الحكومات وفرضها شيئاً فشيئاً ، لكي تصبح مقبولة بمقتضى القانون ومحمية من قبل السلطة .
إن الطرح اللائكي في مؤتمر السكان ينبع أصلاً من تصور خاص للدين ولدوره في الحياة ، كما ينبع من مفهوم أوربا والغرب عامة له ، على أساس أنه علاقة بين الإنسان وربه – أي علاقة فردية بحتة – لا تَدَخل للدين فيها .
كما ينبع من الموقف السلبي من الكنيسة وتدخلها في الحياة الاجتماعية وأجهزة الدولة ، من جراء الذاكرة التاريخية للتجربة التي عانتها الشعوب الأوروبية من الكنيسة الكاثوليكية وممارساتها الخاطئة على مدى قرون طويلة .
إن الذي حدث في القاهرة ، إنما هو عملية " جس نبض " للشعور الديني وللقيم الأخلاقية ، لمعرفة مدى تأثيرها على سكان المعمورة . وهو أيضاً محاولة لتمرير عمليات تغييرية ثقافية مناقضة تماماً للمبادئ الدينية وخاصة مبادئ الإسلام ، الذي يصيغ الحياة وفق تفسير دقيق وعميق لمعاني القرآن والهدي المحمدي .
إن الأمر لا يتعلق فقط بموقف المسلمين والكاثوليك ، إنما يتعداهم ليشمل الاتجاه البروتستانتي القوي في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها . فكما نعرف ، فقد قتل في الفترة الأخيرة ، عدة أطباء كانوا يجرون الإجهاض ، بأيدي مناهضات لهذه العملية ، وطبعاً فإن هؤلاء حكم عليهم مسبقاً من الكنيسة البروتستانتية ، لهذا فإننا نرى العيادات الطبية التي تقوم بعمليان الإجهاض ، تحت حماية رجال الشرطة بشكل دائم .
كما لا يغيب عن أذهاننا ، بأن الكنيسة البروتستانتية قوة من القوى السياسية الحالية الأكثر تأثيراً في الانتخابات المحلية الأمريكية ، ولذلك فإن البرامج الانتخابية تشمل بوضوح المطالبة بالإشراف الديني على المدارس الحكومية ، ومنح رخص لأقنية التلفزيون بالدارة المغلقة لبث التعاليم الدينية بواسطتها .
وأما الكنيسة الكاثوليكية فإنها تقوم بمبادرة سياسية عالية المستوى للتأثيرعلى الدول والحكومات عن طريق التأثير في تيارات الرأي العام ، وذلك من خلال مؤسسات قادرة وممولة تمويلاً قوياً يمكنها من القيام بمهامها على أفضل وجه ، وهي في كل حال مدعومة من الدوائر ذات النفوذ في البلدان المختلفة .
إن قدرة المؤسسات الدينية تنبع من اعتمادها على الميول العميقة عند الناس في عالمنا المعاصر ، فنمو البحث عن الروحانية وخاصة لدى الشباب ، وبشكل مواز ، تدهور الصورة السياسية والحزبية بسبب الفساد المستشري في معظم الدول الديمقراطية ، واهتزاز مجتمع الرفاهية الذي تتباهى به الحكومات الغربية .
بالإضافة لوجود تيار ديني يستقطب الطبقات المستضعفة ، ويطالب بإنصافها سواءً على مستوى الأفراد أو المنظمات غير الحكومية التي تلتقي في نمط خطابها مع الخطاب الديني بصورة عامة .
كل هذا جعل المبادئ الديمقراطية التي تقوم أصلاً على مبدأ الإغراء ، فاقدة المعنى والمضمون ، كما أن خطاب صاحبات النزعة النسوية أصبح عبارة عن تجريدات تمثل أقلية محدودة من أصحاب الامتيازات الاجتماعية فحسب .
إن العقلانية الفردية التي يؤسس عليها الغرب نظامه التربوي ، وعملية التطور التقني المبالغ فيه ، والقائمة على إقصاء العالم الثالث ، جعلت الخطاب الدني متفوقاً وخاصة الإسلامي منه بما يتمتع به من رسالة بسيطة شاملة ، تعتبر الأسرة قيمة بحد ذاتها ، تقوم على التكافل والتعاون لا كما يريدها الخطاب المغاير أسرة مفككة الأوصال تشيد على مقدار الوفرة المادية وعلى كمية المتعة واللذة المحصلة للفرد فيها .
وبما يقدمه الغذاء الروحي ، والايمان بالبعث والجزاء والحياة الأبدية ، يوفر الراحة النفسية والطمأنينة والأمن المادي والمعنوي .
كما أن الشعور بالاحترام الذاتي عند المسلم جاء نتيجة للتفوق الأخلاقي الذي يتحلى به المتدينون عادة ، والذي يدفعهم إلى السمو في العلاقات الاجتماعية ، ويعطون بذلك دليلاً على حاجة الإنسان لفطرة التدين .
بعد كل ما سبق ، فإن اللحظات التاريخية التي مرت بالعالم أثناء انعقاد مؤتمر السكان في القاهرة ، تبرهن بالدليل القاطع ، على أن الخطاب الديني الذي أساسه العدل والتضامن بين البشر قد تفوق بصورة واضحة على الخطاب التكنوقراطي المقنع والقائم على التنمية الحرة والتنافس الفردي .
إن الفائدة المعلمة والهادية مما حدث في القاهرة ترشدنا إلى اتجاهين واضحين : اتجاه نحو نمط التنمية الديناميكي وهو خاص بجزء قليل من السكان ، ويحاول أصحابه بما لديهم من قدرات عسكرية واقتصادية وعلمية وتكنولوجية أن يفرضوا شروطهم ومثلهم على العالم كله .
وفي الطرف الآخر اتجاه يمثل غالبية السكان في العالم ، التي تعيش ظروفاً قاسية وصعبة على صعيد الحكم والاقتصاد والحياة الاجتماعية .
وهنا يكمن دور الإسلام الريادي في استنقاذ البشرية ، من براثن المادية المجحفة عن طريق تقديم الحلول التي يطمح إليها العالم ، حلول تلبي حاجات المجتمعات الإنسانية وهي بعينها تنمي في الإنسان روحانيته وترد عليه إنسانيته المضيعة .. إنها فرصة سانحة ، وهي بمثابة تنبيه وإنذار ، تطالبنا – نحن المسلمين – بأن نؤدي حق دورنا الحضاري على أكمل وجه لنكون كما أراد الله لنا أمة وسطاً : ((وَكَذَلِك جَعَلْنَاكُم أُمَّة وَسَطاً لِتَكُوْنُوْا شُهَدَاء عَلَى الْنَّاس وَيَكُوْن الْرَّسُوْل عَلَيْكُم شَهِيْدا )) ( البقرة 143 ) .
رياج ططري
No hay comentarios:
Publicar un comentario