السلام وطبائع الشعوب
إن مواصفات شعب أو أمة لايمكن معرفتها من خلال نظام قائم أو حكومة مهيمنة أو سلطان عابر ، كما أن تحديد طبائعها بمستوى تقدمها أو تخلفها الفني أو إنتاجها الاقتصادي أو وضعها الاجتماعي هو وهم زائل لامحالة .
إن الشعب أو الأمة ومواصفاتها تتكون عبر التاريخ ، فالجوانب التي تَسِم شعباً ما أو أمةً بعينها ، إنما هي منظومة العقائد والأفكار والتوجهات التي يحملها أفراد هذا الشعب ، وتهضمها شرائح الأمة عبر صفحات التاريخ وتراكماته الطويلة، فيطبع عليها بصماته من خلال القيم والعقائد التي تحملها ، فيتكون سلوك الأمة الذي تتحرك فيه بين الناس وفي العالم .
قد تبرز خلال فترة من الفترات التاريخية ، صورة معينة لشعب من الشعوب تعبر عن طبائعه ، وما يكمن داخل حسه ووعيه ، كما رأينا ذلك واضحاً جلياً في الحروب الصليبية التي قامت بها أوروبا فدلت على كوامن مواصفاتها وطبائعها . ثم طرأ تغيير على أوضاع أوروبا ، فما طبيعة هذا التغيير ؟
لقد تغير وضع أوروبا بصورة سطحية ، حيث تقدمت صناعياً ثم تكنولوجياً .. غير أن هذا التقدم لم يغير النهج الذي كانت تسير عليه ، ولم يحل تصور آخر يختلف عن ذلك التصور الذي دفعها لأفعالها الشائنة في القرون الماضية .
والدليل على ذلك ، أنها مازالت تستلهم نفس المعتقدات التي دفعتها بعد ذلك لارتكاب الجرائم المتلاحقة ، فقضت على الهنود الحمر في القارة الأمريكية ، وعاثت في الأرض الفساد ، في حربين طاحنتين عالميتين في مدة قصيرة من الزمن ذهب ضحيتها الملايين من القتلى والمصابين والمشوهين من نفس شعوب أوروبا وسكانها . وما فتئت البلدان المستضعفة تعاني من عنجهيتها الطاغية في كل أجزاء العالم
لذا فليس من المستغرب أن يعتقد إنسان بأن سمات الشعوب والأمم ، تتبدل بتبدل الظواهر السطحية لها ، فالذين لايدرسون التاريخ ولا يفهمون طبائع الشعوب وعقائدها ، لن يفهموا الحاضر ولن يعرفوا التعامل معه ، وبالتالي فإنهم لن يفهموا المستقبل ولن يحسنوا الإعداد له .
الإســـلام وطبائع العرب :
والعرب كشعب ، عاشوا صراعاً بين الايمان والكفر ، فمنذ وجودهم في الجزيرة العربية احتدمت المواجهة بين التوحيد والشرك ، فكانوا دوماً في صراع مستمر ، إن انتصر الايمان وحَدهم وقضى على الشرك والتجزئة ، وإن كان العكس عاثوا في الأرض الفساد وأهلكوا الزرع والحرث . كانوا أهل بادية وصحراء ، فأثّرت طبيعة المنطقة في تكوينهم فرسّخت لديهم بعمق المعاني الأخلاقية السامية من فروسية وقوة شكيمة ومروءة وصبر ، وكانت منطقتهم ومازالت نقطة التقاطع لكل أجزاء العالم ، بل إنها نقطة الوصل بين قارات العالم القديم ، الأمر الذي جعل تراث الإنسانية كله حيّاً بين أيديهم .
جاء الإسلام ، فصاغ للعرب آنئذ شخصية فريدة انصهرت – كلياً – في تعاليمه ، وفتحت عهداً جديداً لأمة إسلامية واحدة ، وحضارة إسلامية واحدة ، تمثلها كل الشعوب التي آمنت بالإسلام ، وعاشت عبر القرون تشيّد صرحاً يقوم على التوحيد والوحدة ، ويرفض الكفر والتجزئة ، شعاره التسامح والتعايش بين الناس كلهم ، فكان برداً وسلاماً على الدنيا على مر القرون .
روما وحضارة أوروبا :
أما سمات الشعوب الأوروبية الأساسية التي انبثقت عن الأفكار والمعتقدات التي آمنت بها ، فهي مستلهمة من حضارة روما الوثنية ، القائمة على العنف والسيطرة الجائرة وتأليه القوة وعبادة الجسد ، والهيمنة بدون رأفة على مصائر الشعوب وسحق ثقافاتها وتراثها .
ولذلك فإن أوروبا تأبى التعايش مع ثقافات أخرى وترفض كلياً – وذلك من طبيعة تكوينها – التسامح مع الآخرين ، وما رضيت يوماً التعايش والحوار عندما امتلكت زمام القوة ، وما كان اجتياحها للبلاد الاسلامية الآمنة في القرن الماضي وفي مطلع هذا القرن إلا على أنهار من الدماء ، كما فعل أسلافها عندما احتلوا بيت المقدس . وبعد ذلك يتشدّق الغرب بكلام معسول عن حقوق الإنسان وعن حق الشعوب بتقرير مصيرها .
لقد أدرك دهاقنة السياسة الأوروبية بأن الاسلام يوحّد ولا يفرّق ، بل يقوم أساساً على التوحيد والوحدة ، فأخذوا يقطّعون إرباً إرباً البلد الواحد ، ويقيمون الكيانات المصطنعة المتناحرة ، لقد مزّقوا أمتنا ووطننا الإسلامي شر ممزّق .
ووضعوا في كل جزء حاكماً حريصاً على رقعته التي يحكمها حرصه على حياته بل وأشد ، وهو بنفس منطق الغرب يحكم ويتحرك ، ويمنعون بذلك عودة الأمة إلى امتلاك القوة مرة أخرى ، وهو مازال يذكر يوم رُد على عقبيه ، وطرد من الشرق الإسلامي شر طردة إثر الحروب الصليبية ، فراجع ذاكرته فإذا بها تعيده إلى يوم أن وقف يترنّح أمام ضربات الدولة العثمانية عدداً من العقود ، ثم لابد أنه لم ينس بعد المقاومة الإسلامية التي استطاعت أن تخرجه كمستعمر لبلاد المسلمين من المغرب وحتى الهند .
لكل هذا ، فقد اجتهد الغرب في محاربة الاسلام وأهله ، لأنه يخالف طبيعته وسمته بعد أن يئس من محاربة أصول الاسلام وتعاليمه ، لأن الاسلام المحفوظ بحفظ الله له ، وقف سدّاً منيعاً أمام كل محاولات الطعن والتحريف والإفساد التي ذهبت كلها أدراج الرياح .
فلما تيقّن مخططو أوروبا – وأمريكا شعوبها أوروبية – من هذه الحقيقة ، أخذوا في طعن المسلمين ، فوضعوا أيديهم على مؤسسات التعليم ، وأجروا على الألسنة الاستهتار بالعلماء والنيل منهم والتهكم عليهم ، وشوّهوا تاريخ الأمة الاسلامية ، بل وحاولوا طمس هويتها بإعادة الشعوب إلى تاريخ ما قبل الاسلام ، تاريخ الجاهلية والوثنية ، من فرعونية وفينيقية وآشورية ....
وأبعدوا معايير الاسلام عن الحياة وشنّوا حملات إرهابية ضد الملتزمين به ، ناعتين إياهم بكافة الصفات المنفرة ، ونشروا اللهجات العامية في محاولة للقضاء على العربية العظمى لغة القرآن .
وباختصار ، لقد نشروا التغريب بين أبناء المسلمين بشتى الوسائل والطرق ، وفي أوسع المجالات والأمكنة .
اليهود وما أدراك ما اليهود :
أما سمات اليهود وطبائعهم ، فهي معروفة لكل مسلم ، يقرأها في كتاب الله العزيز الحميد ، ولعلها تلتقي في معظم صفاتها بسمات الشعوب الأوروبية ، لذلك نشأ بينهم التحالف المصلحي ، وهذا بحد ذاته من طبيعة اليهود وسلوكهم في كل وقت ، وفي كل مصر ألا وهو التحالف مع الأقوى .
غير أن سمتاً آخر يفوق في عمقه وأثره ، كل ما امتازت به شعوب حضارة روما الوثنية ، وهو اعتقاد اليهود بأنهم شعب الله المختار ، وما سواهم إنما خلقهم الله لخدمتهم .
وتلمودهم يُذكّي فيهم هذا الشعور :
( تذكروا يا أبنائي بأن الأرض كلها ستكون لنا نحن اليهود ، أما غيرنا ، وهم حثالة الحيوانات وبرازها فلن يملكوا شيئاً قط ) .
( وهب الله اليهود حق السيطرة والتصرف بدماء جميع الشعوب وما ملكت ) .
( اليهود بشر لهم إنسانيتهم ، أما الشعوب الأخرى فهي عبارة عن حيوانات ) .
( ما معنى " هارسينية " أي جبل سيناء ؟ إنه يعني الجبل الذي تنطلق منه أشعة سيناء ، أي الشعور بكراهية جميع شعوب العالم ) .
( ومن يسفك دم غير يهودي فإنه يقّدم قرباناً للرب ) .
وصدق الله تباركت أسماؤه إذ قال :
( وَضُرِبَت عَلَيْهِم الْذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة وَبَاؤُوْا بِغَضَب مِّن الله ذَلِك بِأَنَّهُم كَانُوْا يَكْفُرُوْن بِآَيَات اللهِ وَيَقْتُلُوْن الْنَّبِيِّيْن بِغَيْر الْحَق ذَلِك بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوْا يَعْتَدُوْن ) البقرة 61 .
إن قراءة بسيطة لسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام ، تبين لنا خلق اليهود وسلوكهم ، لقد عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم فأخلفوا الوعد بل وطعنوه من الخلف ، وهم منذ ذلك التاريخ لم يتلكؤوا لحظة في الكيد للإسلام والمسلمين .
فكيف نستطيع أن نأمن لهم وهم لا يحفظون إلاً ولا ذمة ؟
بل كيف نقبل بهم الآن وبيدهم السلطة والصولجان ؟ أنمكنهم من أنفسنا كالبلهاء لكي يفعلوا بنا الأفاعيل ؟!
إن أهلنا في فلسطين لم يبدوا ضغينة ولا حقداً لليهود ، عندما جاؤوا مهاجرين إليهم ، بل استقبلوهم كأهل كتاب ، وعاملوهم المعاملة الحسنة – لا كما تُعامل أوروبا العمال المهاجرين إليها في وقتنا الحاضر – وما نقموا منهم إلا عندما وجدوهم مدججين بالسلاح وقد ظهرت – جلية كفلق الصبح – نواياهم السيئة ورغبتهم بالعدوان والسيطرة .
قال تعالى :
*(فَمِن اعْتَدَى عَلَيْكُم فَاعْتَدُوا عَلَيْه بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم وَاتَّقُوا الْلَّه وَاعْلَمُوا أَن الْلَّه مَع الْمُتَّقِيْن)* البقرة : 194 .
إننا لا ننسى كيف أن اليهود عندما طُردوا من إسبانيا ، لجأوا إلى بلادنا ، لجأوا إلى المغرب والجزائر وتونس .. بل وإلى فلسطين وإلى الأستانة عاصمة الدولة الاسلامية أنذاك . فهل هناك أطيب وأسمى من هذه المعاملة ؟ إنه سمت الإسلام الذي تشبع به المسلمون وأخلاقه .
وفلسطين ....
إن فلسطين بالنسبة للمسلمين قاطبة ، قضية عقيدة وكرامة وحق ومصير ، لا يمكن التخلي عنها والتفريط بشبر منها . إنها أرض الإسراء والمعراج وبيت المقدس والأرض التي بارك الله حولها ، إنها وقف للأمة الإسلامية كلها على مر الزمن .
لقد احتل الصليبيون القدس وانساحوا في أرجاء البلاد أكثر مما انساح اليهود الآن وهددوا كيان الأمة أكثر مما يهدده اليهود الآن ، ولم يتم تطهير الأرض منهم إلا بعد قرنين من الزمان .
إن اليهود في الوضع الراهن ، بانتهاء حالة الحرب ، وانفتاح الحدود ، وإقامة السلم المفروض بيننا وبينهم ، أقدر منا في الأوضاع الحالية على أن يربحوا المعركة في السلم ويحققوا بها ما لا يقدرون على تحقيقه في الحرب . ثم بعد ذلك يُعدون لحرب جديدة ، ويصطنعون ظروفاً جديدة ليتوسعوا حيث يريدون وإلى الحدود التي يرغبون ، ويمدون سلطانهم إلى أقصى ما يحتاجون .
قال تعالى :
( يَا أَيُّهَا الَّذِيْن آَمَنُوْا لَا تَتَّخِذُوَا الْيَهُوْد وَالْنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُم أَوْلِيَاء بَعْض وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنْكُم فَإِنَّه مِنْهُم إِن الْلَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الْظَّالِمِيْن ) المائدة: 51 .
وإن جاز أن نصف الاتفاق الأخير أو أن تصف حالة ما يسمى ( بالسلم ) الآن ، بصورة مبسطة فإننا نقول :
إنه أشبه بإنسان أجبر بالقوة على الخروج من داره التي يملكها وقد كان ولد فيها هو وأبوه وجدّه وأسلافه .. ولكن بعد الصراخ والعويل ، تنازل المعتدي المغتصب لهذه الدار ، وأعطى المالك الشرعي بعد الضغط والإلحاح غرفة من غرف داره ، وأملى عليه شروطه : أن يدفع أجرتها ، وأن يبرهن على حسن خلق بعدم المطالبة بحقه في ملكه ، وأن تطيب نفسه مع المغتصب وخاصة بأن لا يتأفف ولا يتذمر ، ولا يبدي اعتراضاً ، عندما يتفقده عند الخروج والدخول من داره ، بل وعليه أن يتقبل بكل رضى وسماحة ما يفرضه عليه من شروط جديدة توافق مصلحته وهواه في كل وقت وآن .
نحن والمستقبل
إننا نعي تماماً ما عليه أوضاع الأمة الإسلامية المهترئة الفاسدة ، ونعرف أن هذا لا يرضي الله تعالى ابتداء ً ، فالتجزئة والتفريط بأجزاء من وطننا الإسلامي ، وحالة الضياع الفكري والحضاري ، والتبعية الاقتصادية والسياسية ، كل هذا لا يرضى عنه الإسلام . كما لا يرضى الإسلام بأولئك الذين – بحجة الرضوخ للأمر الواقع – يسوغون لأنفسهم ولغيرهم حالة الذل التي أصابتهم ، وربما يذهبون إلى أكثر من ذلك مخالفين طبيعة حضارتهم الاسلامية ، وبذلك يسهلون تنفيذ مخططات من يريد بهم وبأهلهم وبأمتهم بل وبالإسلام وحضارته سوءاً واندثاراً .
إننا نجد الحيف والضيم يصيب أهلنا ، في بؤرة القضية ، في فلسطين ، وإذا بحثنا عن السبب وجدناه في أنفسنا ، لقد تخلينا عنهم ، وعن عونهم ، فأصبحوا لقمة سائغة للفقر والفاقة والعوز ، لقد وقفنا مع عدوهم بدل أن نقف معهم بحجة الانتقام ممن يحركون السياسة في المنطقة ، بل لقد ساقونا إلى ما يريدون تحقيقه فانسقنا ونحن نعلم أننا نرد المهالك ، فأخطأنا جميعاً أفراداً ومؤسسات وجماعات في مواقفنا ، وإننا لمسؤولون أمام الله عن هذا الموقف وعن كل المواقف التي أسلمت إخواننا للضعف والخور ، وقَوّت من موقف عدوهم ومكنته منهم .
إننا أمام تحد كبير ، يحتاج منا صياغة جديدة للتعامل مع المعطيات المعاصرة . فلا تكفي الدعوة لاتباع طريق الإسلام مجردة عن برامج العمل الجاد الفاعل والمؤثّر ، لكسر شوكة التحالف الأوروبي – اليهودي ، والتصدي لإقامة السلام العادل بصورته الصحيحة وبمنظوره الإسلامي .
بل نحن بأمس الحاجة للتشمير عن سواعد الجد ، والقيام بما يمليه علينا إسلامنا ، وخاصة في الإجابة على الطروحات العملية التي تؤدي إلى نهوض الأمة من كبوتها ، وإذا لم تجد الطروحات جواباً صحيحاً وصريحاً عنها مطبقاً في الحياة اليومية للناس ستكون الطامّة التي لا تبقي ولا تذر ، إلى أن يقَيّض الله لهذه الأمة من يصلح لها أمر دينها ، ويقودها إلى النجاح والفلاح في القيام بواجب الإسلام الدين الذي ارتضاه الله لعباده الصالحين .
يقول تعلى :
*( إِلَا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُم عَذَابَا أَلِيْمِا ، وَيَسْتَبْدِل قَوْما غَيْرَكُم وَلَا تَضُرُّوْه شَيْئا وَاللَّه عَلَى كُل شَيْء قَدِيْر )* التوبة : 39 .
رياج ططري
No hay comentarios:
Publicar un comentario