نمط السلام الأمريكي
في بداية التسعينات من هذا القرن ، أوجد سلوك روسيا الناجم عن تفكك الاتحاد السوفييتي ، شروطاً جديدة أدت إلى فرض انضباط أكبر في سير مجلس الأمن في الأمم المتحدة .
وهذا يعني – بكل بساطة – أنه أصبح بمقدور الولايات المتحدة استخدام الأمم المتحدة كأداة ، للحفاظ على سياستها كقوة عالمية وحيدة ، دون أن تجد نفسها مقيدة دائماً بـ " الفيتو " المضاد لقراراتها ، فقد بلغ عدد قرارات " الفيتو " التي استخدمها الاتحاد السوفييتي بين عامي 1945 وَ 1990 حوالي ثلاثمائة قرار في غالبيتها العظمى موجهة ضد رغبات الولايات المتحدة .
ويقول دارسو " الاستراتيجية الدولية " : إنه بدون قوة الولايات المتحدة العسكرية والمهيمنة ، لن تملك الأمم المتحدة القدرة العملية لتنفيذ سياسة أمن دولية ، وستبقى عاجزة كما كانت حتى الماضي القريب . هذا العجز أدى إلى موت ما يقارب عشرين مليوناً من البشر في مائة نزاع ، منذ تأسيس الأمم المتحدة وحتى اليوم ، فكانت طوال هذه السنين تقف أمام كل هذه النزاعات مكتوفة الأيدي لا تستطيع حراكاً .
وتبين الدراسات نفسها من جانب آخر ، أن الولايات المتحدة ستلقى صعوبات دبلوماسية هائلة عندما ترغب بالتدخل العسكري في الشؤون الدولية دون غطاء المنظمة العالمية وموافقة مجلس أمنها المعلنة .
وعليه فإن رغبة الولايات المتحدة بالقيام بدور أمني على النطاق الدولي ، يفرض عليها استخدام الأمم المتحدة لإعطاء صفة هيكلية دبلوماسية لسياستها الأمنية الدولية
وفي هذا يكمن الجديد في الدور النشيط الذي ستقوم به الأمم المتحدة كأداة هامة فيما يسمى " النظام العالمي الجديد " .
غير أن ازدياد أهمية الأمم المتحدة ودورها في حل النزاعات ، يتعارض مع رغبة الولايات المتحدة بتخفيض النفقات الضخمة وغير المباشرة المتأتية من تدخلها في تسوية النزاعات المتزايدة ، وكذلك رغبتها في الحد من المخاطر الناجمة عنها .
لقد كانت الولايات المتحدة إلى وقت قريب ، تتقاسم بصورة ما ، هذه النفقات مع الاتحاد السوفييتي الذي كان يسيطر على نصف العالم حتى نهاية عقد الثمانينات .
وكانت الإدارة الأمريكية تحظى بتأييد واسع – بل ولأبعد الحدود – لتوظيف هذه النفقات في إطار نظام أمن وطني للولايات المتحدة له بُعْد دولي ، يجب عليها المحافظة عليه بشكل فعلي وحيوي نشيط ومكافئ ، ليعادل قوة الاتحاد السوفييتي الدولية آنذاك .
ولكن زوال التهديد السوفيتي ، أفقد الإدارة الأمريكية الاهتمام الوطني والاندفاع للحفاظ على الجهاز العسكري ذو القوة العالمية حياً نشيطاً . وبالفعل فقد بدأت بتخفيضه جزئياً ، غير أن تخفيض نظام الدفاع في الولايات المتحدة يوجب زيادة النفقات النوعية تحسباً لأي تدخل عسكري مفاجئ .
بالإضافة لعدم وجود خطر يهدد المصالح الحيوية للولايات المتحدة ، يجعل من الصعوبة بمكان الحصول على الإجماع الوطني للقيام بالتدخل العسكري لإحلال السلام في النزاعات الممكنة .
إن مشكلة الولايات المتحدة كما يستعرضها المحللون لسياسة الإدارة الأمريكية تكمن في كيفية التوفيق بين معايير ثلاثة :
أ- الحفاظ على دورها كقوة عالمية وحيدة ، وهذا يوجب عليها ، احتكار التحكم في النزاعات المحتملة الوقوع ، وبالتالي قيامها بوظيفة حارسة الأمن العالمي .
ب – الحصول على الإجماع الدولي في وقت يصعب الحصول عليه نظراً لسقوط الامبراطورية السوفييتية ، ولقلة الثقة بالأهمية الموضوعية للولايات المتحدة كمدافع عن الأمن العالمي .
ج – تخفيض النفقات العسكرية والتكاليف السياسية للأعمال العسكرية التي تفرضها المشكلات والنزاعات المحتملة .
وللإجابة على هذه المعضلة لا بد من قيام نظام تحالف متعدد الأطراف ، يدفع المتحالفون فيه جزءاً من النفقات الاقتصادية والبشرية للأعمال العسكرية المزمع القيام بها . ولقد طبق هذا النمط في الحرب ضد العراق ، حيث سددت المملكة العربية السعودية نصيباً كبيراً من نفقاتها ( خمس وخمسون ألف مليون دولار ) ، بينما سدد الباقي كل من الكويت واليابان وألمانيا وبلاد أخرى ، ولكن يبدو أنه من الصعب تكرار مثل هذا التحالف .
كما أن الاكتفاء الذاتي بتخفيض النفقات المالية ، لا يوفر الحفاظ على القدرات العسكرية المجهزة والمعبأة للقتال بله تزايدها ، وتسديد النفقات المالية لا يوفر القوات العسكرية اللازمة في كل وقت ، لذا يجب البحث عن حلفاء لديهم عناصر فاعلة وعملية من قواتهم العسكرية تكون تحت تصرفاتهم دوماً وعند الطلب .
والأمم المتحدة هي الآن ، الأداة الوحيدة والمفيدة ، سواء لزيادة نفوذها ، أو لايجاد انسجام ديبلوماسي للتحالفات الممكنة ، التي تنظم بصورة فاعلة المساهمات متعددة الأطراف ، وتوزيع النفقات النسبي . كل هذا يتم تحت لواء الولايات المتحدة الفعلي .
ولكن هذه الأسباب ، من الممكن أن تسعى الأمم المتحدة في بناء بنية عسكرية دائمة قادرة على التنسيق وعلى دمج مختلف المساهمات العسكرية الآتية من البلدان المختلفة ، وفق قواعد تنظيمية يسهل التعامل معها . وهذا السعي ضروري في حالة السلم ، لأنه بدون التدريب والتعود على اتخاذ الإجراءات اللازمة ، لا يمكن استخدام هذه القوات كأداة عسكرية متعددة المصادر في مهمات معقدة ومفاجئة .
وبالفعل يبرهن المراقبون بأن الدليل الأول على هذا التوجه هو طلب الأمين العام للأمم المتحدة بأن يضع كل بلد تحت تصرف الأمم المتحدة عدداً محدداً من القوات بصورة دائمة ، لفرض العمليات الديبلوماسية الوقائية ولإحلال السلم ، على حد تعبير الأمين العام ، وبكلام أوضح لعمليات متعددة الأطراف للردع والحرب .
وضمن هذا المسعى ، تأتي الخطوة ذات الأهمية الكبرى – وهي ذات طابع سياسي بحت ، لأن الولايات المتحدة لديها اهتمام موضوعي في بناء نظام إدارة جماعي للأمن الدولي تتوزع فيه النفقات الدول المشاركة ، سواءً منها العسكرية أم الاقتصادية ، وهي تحافظ دوماً على زعامتها للعالم ، ولكن بأقل نفقات ممكنة - وهذه الخطوة تقوم على اتباع المبدأ الذي عُمِلَ به في مطلع السبعينيات ، والذي وُضع بصورة عملية من خلال تكوين مجموعة الثلاثة ، ثم مجموعة الخمسة ، وأخيراً مجموعة السبعة الكبار .
وهذا التشكيل الجديد ، كما يصرح المحللون السياسيون ، سيورط اليابان وألمانيا في الإدارة المشتركة للأمن العالمي ، أو بتعبير آخر سيدخلهما في السلطة الاقتصادية الحقيقية – ( لأن روسيا وفرنسا والمملكة المتحدة وحالياً الصين لا يمثلون هذه السلطة مطلقاً ) – في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بصفة أعضاء يتمتعون بحق"الفيتو" .
وإذا خرج هذا التصور إلى الواقع العملي ، وأصبح حقيقة ملموسة – ويبدو أنه سيصبح حقيقة إذا وضعنا في الحسبان اهتمام الدولتين اليابان وألمانيا بزيادة قوتهما التفاوضية في المستوى السياسي – فإن الأمم المتحدة ستحظى عندئذ بالسلطة التامة السياسية والاستراتيجية والاقتصادية الكافية للتصرف كأداة ثابتة لإحلال السلام الشامل في العالم ، حسب رغبة الكبار ، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية .
غير أن هذا كله لن يكفي ، فيجب إذاً إعطاء بعض الأدوار الفرعية لباقي الدول الأوروبية ، لحفظ ماء الوجه ، وكذلك منح بعض الأدوار البسيطة في صنع القرار لتوريط الأمم الكبيرة التي لا حول لها ولا قوة كالهند والصين والدول العربية .
وفي كل عملية من هذا النوع ، سيتوجب على الولايات المتحدة التنازل ولو شكلياً عن بعض السلطة للآخرين لكي تحافظ على سلطتها الحقيقية .
أيضاً فإن قرارات الولايات المتحدة الداخلية ستخضع للروابط والتحالفات متعددة الأطراف ، والتي ستقوم تحت غطاء الأمم المتحدة ، وهذا الأمر سيزيد من الصعوبات الديبلوماسية ولن يكون حل إشكالياتها بالأمر السهل والدائم .
رياج ططري
No hay comentarios:
Publicar un comentario