التَرْبِيَة : مَفهومها وَمَكانتها
تعود كلمة التربية إلى أصول لغوية ثلاثة هي :
- رَبَا : بمعنى نَما ينمو .
- ورَبِيَ : بمعنى نَشَاَ وترعرع .
- ورَبَّ : بمعنى أصلح وساس وتولى ، وقام على ، ورعى .
فالتربية إذاً : إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام ، كما يقول الراغب ..
وهي تعهد الشيء ورعايته بالزيادة والتنمية والتقوية ، والأخذ به في طريق النضج والكمال الذي تؤهله له طبيعته ، كما قال الدكتور دراز رحمه الله .
وإذا عرفنا معنى التربية ، وأدركنا النتائج ، فإن ذلك يؤدي بنا إلى معنى الشرع والدّين .
لأن التربية تستمد جذورها منه ، وطبيعة النفس الإنسانية طبيعة متديّنة ، والإنسان في حقيقته كائن مُتديّن ، كما بين الأستاذ الباني حفظه الله .
وعليه فإن التربية الإسلامية هي التنظيم .. " أو مجموعة النُظُم النفسية والاجتماعية التي تؤدي إلى اعتناق الإسلام وتطبيقه كلياً في حياة الفرد والمجتمع ..
وهي ضرورة حتمية لتحقيق الإسلام كما أراد الله أن يتحقق ، وبهذا المعنى : تهيئةُ النفس الإنسانية لتحمل هذه الأمانة ، وهذا يعني بالضرورة أن تكون مصادر الإسلام هي مصادر التربية الإسلامية .
فالقرآن الكريم يحاكي النفس ويربيها على القيم السامية ، ويحملها عليها حملا ، رغباً ورهبا .. ويرسّخ فيها الايمان وينمي في سلوكها العمل بمقتضى أوامر الله .
التربية في ســــيرة محمّد صلّى الله عليه وسلّم
وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم شخصيّةً تربيويّةً فذّة يراعي مواهب الإنسان ، ويلتمس دوافعه الغريزية ، ويوجه الطاقات ، طاقات العقل والجسم والرّوح معاً ، للتجاوب مع الهدف الأعلى ، الذي يسمو بالفرد وينهض بالمجتمع .
ولهذا فقد كانت التربية التي تعهّد بها النبيّ صلّى الله عليه وسلم أصحابه ، هي لبّ عمليّة التغيير وأساسه ، قال المودودي :
( أنظروا قليلاً فيما تحرّى النبيّ صلّى الله عليه وسلم ، من التدرّج والترتيب للبلوغ إلى هذه الغاية – تحقيق العبودية لله – فقد قام بدعوة الناس – أولاً وقبل كل شيء –
إلى الايمان وأحكمه في قلوبهم ، وأتقنه على أوسع القواعد وأرحبها ، ثم نَشّأ في الذين آمنوا تعليمه وتربيته طبقاً لمقتضيات هذا الايمان تدرّجاً بالطّاعة العملية ، أي الإسلام ، والطهارة الخلقية ، أي التقوى ، وحبّ الله والولاء له ، أي الإحسان .
ثم شرع بسعي هؤلاء المؤمنين المخلصين ، المنظَّم المتواصل في تحطيم النظام الفاسد ، للجاهلية القديمة واستبدال نظام صالح به ، قام على القواعد الخلقية والمدنية المقتبسة من القانون الإلهي المنزل من الربّ تعالى .
ثم لمّا أصبح هؤلاء الذين آمنوا ولبّوا دعوته في كلّ وجهةٍ بقلوبهم وأذهانهم وأخلاقهم وأفكارهم وأعمالهم – مسلمين مُتَّقين مُحسنين بالمعنى الحقيقي – أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يرشدهم إلى ما يزيّّن حياة المتقين المحسنين من الآداب والعادات المهذّبة في الهيئة والملبس والمأكل والمشرب والمعيشة والقيام والجلوس ، وما إلى ذلك من الشؤون الظاهرة ، وكأنني به فَتَنَ الذّهب ونقّاه من الأوساخ والأدران أولاً ، ثم طبع عليه بطابع الدينار .. ودرَب المقاتلين أولاً ثم كساهم زيّ القتال .. وهذا هو التدرّج الصحيح المرضي عند الله في هذا الباب ، ( كما يبدو لكل منْ تأمل القرآن والحديث وتبصّر فيهما ) .
نظرية التربية التغييريّة الإسلامية :
إن عملية التغيير الاجتماعي ، التي تجري وفق سنن التغيير لِما بالأنفس ، تقوم وفق منهج تربويّ متكامل متجدّد مواكِب لِما يحدث في النفس والمجتمع من تغييراتٍ دائمة ..
والبرنامج الطبيعي لتحقيق التغيير الشامل ، يقوم :
- على تربية الجيل من خلال الايمان والثّقة بالله ، والجهاد المستمر ، مع الرؤية الواضحة للأهداف .. كلّ ذلك في ضوء القرآن والسنة .
- وعلى تلاحم الجيل المنظّم المتعاون الذي يكوّن التغيير وخميرته في المجتمع .
- وعلى قيام هذا الجيل المنظّم بالتطبيق العملي الطّوعي وقيامه بالمؤسسات المستقلّة التي يشرف عليها بنفسه .
- بعدها يأتي التغيير القيادي بأوسع مفهوم للكلمة ، أي القيادة الفكريّة والاقتصادية والاجتماعية وأخيراً السياسية .
الفرق بين التربية والتعليم :
كثيراً ما يُطلَق لفظ التعليم على ما يُقصَد من كلمة التربية ، ولكن تحرير المصطلح يفرض علينا بيان أن التعليم يتناول غالباً المعلومات ، أي من الناحية العقلية ، وقد يتناول إتقاناً لمهارةٍ من المهارات ، أما التربية فتتناول ما هو أهم من ذلك ، إنها تتناول السلوك والعاطفة ، والاتجاهات الأخلاقية ، وايقاظ المشاعر السامية ، والتدريب على الخلق الجميل .
فالتربية تشمل جميع جوانب الشخصية الإنسانية ، وهي تستعين بوسائل ، منها " التعليم " ، أي التعليم بمعناه المحدود .
لذلك فقد ربّى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه جميعاً تربية ، ولم يُلقنهم فنّاً أو علماً حتى قال قائلهم : " كنّا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نجاوز السورة من القرآن حتى نحفظها ونعمل بها .. فتعلّمنا العلم والعمل جميعاً " .
فالتربية إذاً ، تقتضي خططاً متدرجة تسير فيها الأعمال التربوية والتعليمية ، وفق ترتيب منظم صاعد ينتقل بالمرء من طور إلى طور ومن مرحلة إلى مرحلة ، مُراعياً الجوانب النفسية والبيئية وعمر الإنسان وقدرته الطبيعية على التَّلّقي والنّمو .
رياج ططري
No hay comentarios:
Publicar un comentario