الهجرة الاقتصادية إلى إسبانيا
يحلو لكثير من الدارسين لمسألة هجرة العمال المسلمين إلى إسبانيا ، إنشاء مقارنة بين وجودهم وتوزعهم الجغرافي الحالي في شبه الجزيرة الايبيرية وبين توزع الموريسكيين قبل إخراجهم وطردهم منها في أوائل القرن السابع عشر الميلادي وبالتحديد في عام 1609 م .
هذه المقارنة توجد تشابهاً كبيراً يدعو للدهشة والعجب ، بين توزع المهاجرين المسلمين حالياً والموريسكيين فيما مضى . فقد كان الموريسكيون ينتشرون على طول الشاطىء المتوسطي ابتداءً من قطلونية وبلنسية ومرسية وحتى شرق إقليم الأندلس الحالي ، بل وفي بعض الأقاليم الداخلية ، كالآراغون واكسترمادوره وقشتالة والأندلس . وهذا ما نجده الآن حيث يتوزع العمال المسلمين ومعظمهم من المغرب العربي في نفس المناطق تقريباً .
ومقارنة أخرى تقول بأن نصيباً كبيراً من الموريسكيين كانوا يعملون بالزراعة وفي خدمة النبلاء اللاتينية ، بينما نجد العمال المهاجرين الآن يعملون في الزراعة التقليدية وفي قطاع الخدمات الذي يحتاج ليد عاملة رخيصة ونشيطة لكي يصبح قطاعاً اقتصادياً منافساً .
لهذا فإننا نجد أن عمال الزيتون في ( خايِن ) قد جاؤوا من مدينة العرائش أو من بني ملال ، بينما عمال أشجار العنب في ( لامانتشا ) منهم من فاس أو الحسيمة وعمال أشجار البرتقال في بلنسية قادمون من أماكن أبعد كتلمسان بل وحتى من الجزائر العاصمة .
وقد ظهرت أمور أخرى تميز أوضاع المهاجرين المسلمين في الوقت الحاضر منها أننا نجد أن واحداً من كل خمسة عمال من الذين كانوا يقيمون بصورة غير قانونية ثم نظموا أوضاعهم في عام 1991 ، يعملون حالياً في البناء في كل من مدريد وبرشلونة .. وبهذا فإنهم يكوّنون صورة جديدة للعمل في إسبانيا في عقد التسعينات .
ولكن الفرق القائم والجوهري بين مهاجراليوم وموريسكي الأمس : هو كون الأول أجنبي قادم من بلد آخر ، بينما الثاني فقد كان يعيش في بلده وأرضه .
وعلى الرغم من ذلك لم يعفه أصله وجنسيته من التطهير العرقي والديني فقد عانى أولاً من إكراهه على هجر دينه وعاداته وتقاليده ثم بعد ذلك وفي عام 1609 تمّ طرده من أرضه وبلده بل ومن مسقط رأسه .
وفارق آخر عددي ، هو أن عدد مسلمي إسبانيا في أواخر القرن السادس عشر كان يشكل أربعة بالمائة من إجمالي السكان وكان يصل هذا الرقم إلى عشرين بالمائة في مملكة آراغون ، بينما في الوقت الحالي يشكل أقلية ضئيلة لا تصل بالكاد إلى 0,5 % من مجموع سكان إسبانيا.
على أن المقارنة الأفضل هي التي تقوم بين المهاجر المغربي ، والمسلم المدجن – على حد زعم أحد الدارسين – بدلاً من الموريسكي ، مع أن الأمر يتعلق بنفس الجماعة التاريخية أي المسلمين القدماء ، إذ أن الموريسكي هو المسلم الذي أجبر على ترك دينه عن طريق المراسيم الصادرة بين عامي 1525 وَ 1528 ، بينما المسلم المدجن فهو الذي كان يعيش بين النصارى في الممالك المختلفة في إسبانيا في القرون الوسطى حتى نفس التاريخ .
إن كلمة ( مُديخر ) الإسبانية ، هي عبارة عن تحريف لكلمة ( مدجن ) بالعربية ، وتعني الشخص الذي يسمح له بالبقاء ، وكان يقصد بها أن تقابل مصطلح الشخص الذي يدفع الجزية في النظام الإسلامي .
على أن الكلام عن عودة المدجنين أو الموريسكيين يدفعنا إلى الحديث عن وجود مجموعة كبيرة من الناس أتوا من أماكن مختلفة يسمون الموروس ، وكلمة مورو كانت تستخدم حتى أعوام قليلة خلت إشارة إلى الماضي البعيد وبالذات إلى القرون الوسطى وهي كلمة ذات تاريخ عريق .
غير أنها الآن تطلق على المهاجر القادم من بلدان مختلفة ، بل وعلى عابر السبيل الذي يمر في أشهر الصيف قاطعاً شبه الجزيرة الايبيرية من شمالها إلى جنوبها ، ومن جبال البرانس وحتى الجزيرة الخضراء ، لكي يقضي شهر الصيف في بلده وثم يعود إلى موقع عمله في البلدان الأوروبية .
لم يكن العمال المهاجرين إلى إسبانيا حتى منتصف الثمانينات يشكلون تجمعاً كثيفاً ومتجانساً ، لأن التقليد الذي كان سائداً في إسبانيا هو أنها بلد حر يهاجر أبناؤه إلى أوربا وأمريكا بهدف العمل ، ولهذا فلم تكن هدف الهجرة الاقتصادية .
غير أن بعض العمال المسلمين بقوا في بعض المناطق في إسبانيا – وفي قطلونية خاصة – بعد أن أنهوا عملهم الذي تعاقدوا عليه ضمن مجموعة من العمال المغاربة
الذين أتوا إسبانيا في الستينات للمساهمة في إعمار البلاد . ولكن هذا العدد لم يشكل
واقعاً اقتصادياً واجتماعياً في هذه الفترة .
وإثر إصدار قانون الأجانب عام 1985 ، ودخول إسبانيا السوق الأوروبية المشتركة، جرت أول عملية تنظيم للأجانب عام 1986 فأثبتت وجود جماعة من المهاجرين المغاربة قُدر عددها بِـ 6000 شخص ، وتضاعف هذا العدد إلى 12000 في عام 1987 ( 92% منهم من المغرب الأقصى ) وبعد عملية التنظيم الشاملة في عام 1991 بلغ عدد المهاجرين المقيمين بصورة قانونية 72000 مغربي وَ 3000 جزائري ، يضاف إلى هذا العدد 8000 مهاجر يقيم بصورة غير نظامية وَ 15000 يعملون في خفية ولم يتقدموا لتنظيم أوضاعهم لدى السلطات ، وبهذا نستطيع أن نتحدث عن عدد يقدر بِـ 100.000 مهاجر .
من العرض السابق نرى حضور الذاكرة التاريخية واضحاً وبروز العمق التحليلي لظاهرة هجرة المسلمين إلى إسبانيا .
وإذا نظرنا إلى الخلفيات الايجابية والسلبية لكيفية هجرة المسلمين إلى إسبانيا لرأيناها تتفق في كثير من جزئياتها مع الخلفيات الموجودة في البلدان الأوروبية ، وطرق معاملتها للهجرة الإسلامية باستثناء البعد التاريخي الذي تنفرد به إسبانيا عن باقي أوروبا .
لذا فإننا نرى ربط صورة العرب والإسلام بالإرهاب والعنف ، بكل أشكال المواد التي تقدمها وسائل الإعلام حتى تختلط الصورة في أذهان الأفراد العاديين أيضاً لأنها تقدم هذه الصورة بتكرار وتنوع إلى حد يدعو للعجب والسأم معاً .
أما الصورة الأخرى فهي التي تربط الإسلام والعرب بالنفط وملاكي النفط الذين يبذرون الأموال بينما الشعوب الإسلامية ترزح تحت مطارق الجوع والفقر .الى أن أهم ربط يعتمد عليه الخطاب الغربي في أوروبا حالياً هو ربط الإسلام بالمهاجرين .
وهنا يرز بوضوح التناقض في مضمون الخطاب ، فهم مرغوبون من أصحاب العمل كَيَد عاملة رخيصة تعمل بالخفاء في الزراعة والخدمات والمعامل الصغيرة والبناء ولا تطالب بحقوقها وخاصة في الضمان الاجتماعي لأن أفرادها يقيمون بصورة غير قانونية ، هذا على مستوى العمل وأصحابه .أما على مستوى السلطات فإن هؤلاء المهاجرين يمارسون العمل بصورة غير قانونية ويروجون الاقتصاد الخفي الذي لا يدفع الضرائب .وهم من ناحية أخرى هدف الحركات العنصرية التي تبحث لها عن مشجب تعلق عليه أفكارها الهزيلة الضائعة.
على أن صورة التناقض تتضح تماماً عندما تسوغ السلطات ووسائل الإعلام معاملة المهاجر وكأنه كائن مرفوض ، لأنه يحتل أماكن العمل فيزيد من البطالة ويحرم أهل البلد من فرص العمل . بل ويصرح بعض المسؤولين " بأننا لم نَدْعُ المهاجرين إلى بلادنا ، لقد جاؤوا دون استدعاء منا ، فالأفضل أن يعودوا إلى بلادهم " . في الوقت نفسه نجد أن الأعمال التي يقوم بها معظم المهاجرين هي الأعمال الشاقة والصعبة المهينة ، لذلك يمتنع عن القيام بها أهل البلد .
فالمهاجرون المغاربة يشغلون حيزاً كبيراً في قطاع الفلاحة ، حتى أصبحت نسبة المنتسبين إلى نقابة العمال العامة في هذا المجال مايزيد على 40% من مجموع العمال . وهذا الأمر يتكرر في قطاعات أخرى ، الباكستانيون في المناجم ، النساء المغربيات في الخدمات المنزلية ، وآخرون في الحفر والبناء ، وغيرهم في المقاهي والمطاعم .
إن هذا الأمر يدركه تماماً أرباب العمل وأصحاب المزارع ويعيه المسؤولون تماماً وهم من يدعمون بصورة خفية الهجرة دون أن يظهروا ذلك علانية ، بل ويخشون من ردود فعل قد تدفعهم للاستغناء عن المهاجرين وبالتالي سيؤدي ذلك إلى تأثر بالغ في الاقتصاد الاسباني الذي يرجى منه أن يكون منافساً بسبب رخص أجور العمال المهاجرين .
تناقض آخر يبرز إلى الساحة يتعلق بزيادة حجم المهاجرين المسلمين والخشية من نمو واضطراد الهجرة السرية حتى أن أصواتاً ارتفعت تبين بأن الدين الاسلامي أصبح الدين الثاني وكأن في ذلك غمز إلى ضرورة أخذ الحيطة والحذر من هذا الأمر الذي قد يهدد البلاد في ثقافتها ووحدتها بل ودينها .
وفي الوقت نفسه تشير الإحصائيات والدراسات العلمية بأن نسبة الولادات قد انخفضت في ربع القرن الأخير بصورة مذهلة . فقد كانت إسبانيا في عداد الدول ذات الولادات المرتفعة .وكانت نسبة المواليد فيها 2,9 ولد لكل امرأة في عام 1970 ، وانحدرت هذه النسبة إلى 1,32 في عام 1992 ، وقد أصبحت إسبانيا مع ايطاليا الدولتان الأقل نسبة في الولادات في أوروبا . الأمر الذي سيحول المجتمع .
إلى مجتمع كهول وشيوخ وسيستلزم عدداً أكبر من السواعد الفتية الشابة المهاجرة – التي جاءت ناضجة ولم تكلف الدولة المضيفة مصاريف التربية والتعليم والنشأة – لكي تدير عجلات المصانع وتحفر الأرض وتزرعها وتقدم الخدمات المتعددة التي منها رعاية المتقاعدين وكبار السن الاجتماعية كما يصرح العديد من الباحثين المنصفين الإسبان . إنه التناقض بعينه : الخوف من أن يشكل المهاجرون وأجيالهم المستقبلة نسبة عالية من السكان مع أنهم الآن يشكلون 0,25 % من السكان .
وفي نفس الوقت الإحساس بالحاجة الماسة لهم لحل مشكلات العمل والتقاعد والخدمات الاجتماعية من جانب آخر .
وهذا مضمون تصريح وزير الاقتصاد الإسباني الأخير ، بأن قدرة التأمينات الاجتماعية لن تفي بحاجة المتقاعدين نظراً لقلة اليد العاملة الشابة وذلك اعتباراً من العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين .
إن الأمر يتطلب شجاعة من المسؤولين الإسبان وللإنصاف فإن منهم من وقف وقفات جليلة وجريئة شارحاً الصورة الصحيحة للدور الذي يؤديه المهاجرون ، بل والضرورة الملحة لايجاد اعتبارات حضارية جديدة تتعامل معها كافة الشرائح الاجتماعية ، فالدعوة إلى فسح المجال لحضارات أخرى موجودة في أوروبا كان موضوع خطاب وزير الخارجية الإسباني في البرلمان الأوروبي الذي قال فيه : " إن وجود ثقافات غير ثقافتنا في أوروبا يجب اعتبارها كثقافتنا تماماً لأننا نؤمن بحق الاختلاف " .
كما يقف محامي الشعب في إسبانيا مواقف جليلة في الدفاع عن حقوق المهاجرين وإنصافهم .
وختاماً : أهمس في أذن كل مهاجر مسلم قائلاً : أما علينا أن نلتزم بأخلاقنا ومبادئنا لنكون خير رسل لديننا وعقيدتنا كما كان أسلافنا ممن حملوا الإسلام إلى أصقاع الدنيا فبلّغوا الرسالة وكانوا خير قدوة للناس ، فكانوا سبباً لدخول كثير من أهل البلاد في دين الله أفواجا .
رياج ططري
No hay comentarios:
Publicar un comentario