في حياتنا الاجتماعية.. كل حادث وكل ظاهرة عبارة عن مادة للدراسة بالنسبة للداعية ، وفي كل مكان ومناسبة فرصة للتوعية والتوجيه والإرشاد . إن هاتين الحقيقتين تعبران عن مهمة الداعية الحصيف الذي يؤمن بالتغيير في الحياة الاجتماعية وفي البنية الفكرية للأمة ، وهذا نابع من إحساسه بالمسؤولية الملقاة على كاهله في تغيير حياة الأمة إلى حياة إسلامية ، وفي تغيير فكر الأمة إلى فكر إسلامي واع .
لذا فإن الأمر يتطلب من المسلم الداعية أن ينظر بتأمل ووعي لكل حادث في حياة المجتمع ، لأنه يدرك تمام الإدراك بأن لايستطيع أن يحدث تغييراً إلا بعد معرفة مسبقة بعادات وثقافة وفكر وسلوك الأفراد والمجتمعات ، وبما فيها من تيارات سياسية وفكرية ، ومن أوضاع اقتصادية تتغير وفق المعطيات المتجددة في الحياة .
كما ينبغي عليه أن يعي بأن معرفة الأحداث ، دون التعرف على فئات الأمة وشرائحها من التجار والصناع والمثقفين والمهنيين ، والطبقات المحافظة والأخرى المتفلتة ، ومتطلبات كل اولئك ومشكلاتهم التي يصادفونها في حياتهم ، تبقى معرفة عرجاء ناقصة الفعالية ، بل وعليه بالإضافة لما سبق التعرف على المؤسسات الرسمية والشعبية القائمة في المجتمع ، وأثرها فيه ، وخططها المطروحة عليه ، وبرامجها المقدمة لفئات المجتمع وشرائحه .
إن الدعوة إلى التغيير ليست مطلباً سهل المنال ، فهي تعني قلب الواقع القائم وتشييد واقع آخر يوافق طموح الأمة وأهدافها المنبثقة من عقيدتها السامية ، ولكي يستطيع المتصدي لعملية التغيير القيام بدوره على خير وجه ، لابد له من المعرفة الشاملة لكي مايحيط به من ظروف وألأوضاع وما يؤثر في الأمة من أحداث وقضايا ، ولن يستطيع الإحاطة بكل ذلك بمفرده ، ولن يتسع له الوقت بإمكانانته الفردية المحدودة لتحليل كل هذه الأوضاع والضروف ، للوصول إلى نتائج وحلول تمكنه من القيام بواجبه في مسيرة التغيير عبر الأمة .
من هنا تأتي ضرورة توفر المختصين الذين يبذلون قصارى جهدهم وطاقاتهم ويجعلون من طاولات دراستهم محاريب يتعبدون فيها الله ، وهم يجتهدون لفهم أعمق لحياة الأمة ، وما تعانيه من مشكلات وأزمات ، ويضعون لها الحلول التي تغير فيها شيئاً فشيئاً نحو استئناف الحياة الاسلامية وقيام الحكم الاسلامي .
إن الاختصاص وتكامل جهود المختصين يحقق لنا في هذا العصر ، الذي تشابكت فيه العلاقات وارتبطت المصالح بعضها ببعض ، رؤية واسعة شاملة وعميقة ، ويضمن لنا قيام المؤسسات التي تسهر على مسيرة أفضل للعمل الاسلامي
مسيرة ثابتة الخطى جريئة التقدم ، لاتهتز لأي عارض يظهر أمامها ، ولاتنفعل لأي حدث من الأحداث إلا بالقدر الذي يتطلبه الموقف ، فهي تعمل في الأمة وأحداثها وتؤثر بها من خلال خطة واضحة المعالم محددة الأهداف .
ومع ذلك فإن مايراه الداعية في حياة الناس ، يجب أن يكون مادة للدراسة ، لأن كل مايسمعه ويراه من أحداث ينبغي أن يكون له تعبيرات ودلالات في تفكيره ووعيه . صحيح أن الداعية يمر بالأحداث كما يمر بها سائر الناس ، غير أنه ينفذ إلى أعماق الحدث ، فإذا كان الأمر بالنسبة للإنسان العادي تافهاً وليس له أي أثر ، إذا به لدى الداعية مؤثر على تطور معين في المجتمع ، ودليل على اهتمام محدد عند الناس .وهكذا يستطيع الداعية بعد أن وطن نفسه على التفكير الجاد ، والمنهجية في تحليل الأحداث ومضامينها بنظرة سريعة ثاقبة .
إن الادعاء بأننا نستطيع التأثير في حياة الأمة ، وتغيير مجرى حياتها ، دون استيعاب المشاكل التي تعترض الدعاة ، ودون الإحاطة الكاملة بالعوامل المادية والمعنوية ، التي تؤثر في حياة الناس ، أمر من البساطة والسذاجة بمكان .
وكم من فشل أصاب العاملين في الحقل الاسلامي كان سببه عدم معرفتهم بالظروف والمؤثرات في المحيط الذي يعملون فيه ، لأن هناك ظروفاً تتطلب الإقدام والجرأة والحزم في اتخاذ المواقف ، وهناك ظروفاً تحتاج للروية والحذر ، وأخرى تقتضي التفكير العميق والهدوء المتزن عند اتخاذ القرار والعمل على تطبيقه ، ولايصح تعميم الأحكام وتسطيع الأفكار لأن ذلك يؤدي حتماً إلى الفشل الذريع .
وفي نطاق المجتمع .. نجد أن كل فرد من أفراده يحمل قدراً من تعاليم الاسلام في حياته ، ومهما كان هذا القدر قليلاً ، فباستطاعة الداعية المُجرِّب أن يوظف هذا النصيب في مصلحة توعية الإنسان وحمله إلى تيار الاسلام العامل ، فكم من موظف بسيط حرّك في نفس فرد أو جماعة كوامن الفطرة في داخلهم ، فأصبحوا من خيرة العاملين للإسلام وأنشطهم ، وكم من كلمة أيقظت في نفس فرد أو جماعة رصيد الايمان في قلوبهم ، فإذا بهم ينتفضون على واقعهم ويتحولون بإذن الله إلى مشاعل نور وهداية .
إن الداعية الذي يعمل على حمل الرسالة بصورتها المتكاملة المتناسقة ، ويستفيد من حفظ الفطرة في نفس الانسان ، للقضاء على كل انحراف في حياة الفرد والمجتمع ، ويوظف حظ الفطرة هذا لتوعية الناس وتغيير المجتمع بهم ، ويقوم بذلك وهو يعايش الناس ويحدثهم ، ويصبر على أذاهم ، ويتصل بهم متعرفاً على واقعهم بقلب كبير وذهنية متفتحة ، ويؤثر بهم بصدر رحب وحب غامر .
عندما يأخذ الداعية بهذه الأسباب وسواها ، لن يعدم استجابة الناس له ، على مالديهم من انحرافات عقيدية وسلوكية وفكرية ، وهذا يساعد على متابعة طريق التغيير والإعداد لمرحلة تالية من مراحله في أي مستوى من مستويات الفرد والمجتمع .
لكل ماتقدم فإننا نرى أن من واجب العاملين للإسلام في ثغر يسهرون عليه :
1- إدامة النظر وإدمان الاطلاع على أحوال الأمة ، والالتصاق بقضاياها والاقتراب من حياة الناس اليومية ، لمعرفة مايدور في حياتهم من مشكلات وأمور يجب معرفتها لتحديد كيفية التعامل معها ، بمعرفة أسبابها ودوافعها .. وأما الانقطاع عن مواصلة الناس بدعوى تربية النفس ، والانكفاء على الذات بحجة تكوينها وإعدادها لتقوم بمهامها على أفضل وجه ، فهو موقف يبعد الداعية شيئاً فشيئاً عن مواقع التأثير ، ويضعف من علاقاته بالناس ، بل ويؤدي هذا التصرف على الأيام إلى ضمور قدرته على التفاعل مع طبقات المجتمع ، وتفهم مايجري في حياتها.
إن الاتصال بالناس في كل موقع من مواقع وجودهم ، في منتدياتهم ومقاهيهم في مصانعهم وحقولهم ، في المساجد وفي السجون ، واستقراء أوضاعهم سواءً منها الاجتماعية أو الاقتصادية أو الفكرية ، والتعايش معهم بما تحمله هذه الكلمة من معان ، للتعرف على كل صغيرة وكبيرة ، واجب لامندوحة عنه في كل وقت وفي كل مكان .
2- تحليل الوقائع والأخبار ، ببصيرة نافذة ، وبعين ثاقبة ، لوعي وإدراك مايحدث في المجتمع ، وفي حياة الإنسان ، فالداعية عندما يقرأ الأخبار في الصحف والمجلات ، التي تعكس بصورة أو بأخرى الأحداث التي تجري في الحياة ، لايقرؤها كشخص عادي وبصورة سطحية ، وإنما ينفذ إلى أعماق الخبر ليتعرف على دلالاته ومعانيه ، وآثاره المتوقعة على عملية التغيير ، ويعمل بعدها على الاستفادة من ذلك في توجيه الناس ، وتوعيتهم وضرب الأمثلة الحية من واقعهم ، مستخدماً كل هذه المعطيات في شرح وتبيان دعوته ومنهجها ومقاصدها .
3- التخطيط والتفكير المسبق قبل الإقبال على تنفيذ أي عمل من الأعمال أمر ضروري ،وشرط للنجاح ، لأن القيام بعمل ما قبل أخذ العدة الكافية لإنجاحه ، بمعرفة ظروف الوسط ، وطبيعة المشاكل المحيطة به ، ودراسته دراسة موضوعية، بوعي الأحداث والأشياء والمؤثرات التي تترك بصماتها فيه ، قد يؤدي إلى مردود عكسي أو إلى فشل في تحقيق الهدف المرجو من العمل .
وقد يتعلل بعض المقصرين أو الجبناء بهذا المطلب ، ليتقاعسوا عن أداء واجبهم أو ليهربوا من أداء مسؤولياتهم ، لذا يجب التفريق بين هذين الموقفين مصرّين على أن التخطيط والبرمجة هما عمليتان تكفلان عطاء متزناً ناجحاً تتوفر فيه الخصوبة والاستمرار ، وتجنبانه الارتجال والانقطاع .
وليضع الداعية نصب عينيه أن التغيير عملية شاقة تشمل الأمة كلها ، بطبقاتها وفئاتها ، ولا تتم إلا بالتوعية الصابرة التي تعمل على تغيير ذهنية الأفراد وتصحيح أفكارهم ، ولا يتم ذلك بالتخيل والأماني ، بل من خلال عملية مستمرة مخططة ينتقل فيها الفرد من مرحلة إلى مرحلة ، تصحح فيها الأفكار وتُقَوّم المفاهيم تمهيداً للانتقال للمرحلة التي بعدها .
ومن هنا يتبين لنا ضرورة التخطيط ، ووضع البرامج التي تحدد هذه المراحل وتعمل على تقويمها في كل مرحلة للوصول إلى الهدف المبتغى .
4- وعلى ضوء ماسبق ، يتبين للداعية مايجب أن يقوله أو يفعله في أي مكان أو أي مناسبة . ليصبح بإمكانه اختيار الخطبة المناسبة في احتفال معين ، والحديث الملائم للحدث الطارئ والمقابلة المفاجئة ، وما ينبغي أن ينقله لابن المدينة الصناعية ، والخطاب الذي يوجهه لابن ريف من الأرياف.
إن الداعية إذا ماامتلك ناصية ماتقدم ذكره ، يستطيع بعون الله وتوفيقه اغتنام الفرص واستثمار المناسبات في كل الأماكن ومختلف الظروف ، لنقل التوعية التغييرية للأفراد والجماهير على حد سواء ، بل ويستطيع أن يتعامل مع النفس الانسانية بالصور والمحتوى المناسب لها ، مهما أصابها من فساد أو انحراف ، لأنه تعرف على مداخلها وطَرَقَ على أوتارها الحساسة ، فلذلك لن يعدم استجابتها في كل حال ، وهذا ماعنيناه في مطلع كلامنا : بأن في حياتنا الاجتماعية كل حادث وكل ظاهرة عبارة عن مادة للدراسة بالنسبة للداعية ، وفي كل مكان ومناسبة فرصة للتوعية والتوجيه والارشاد .
كل ذلك على طريق التغيير نحو استئناف الحياة الإسلامية في مستوى الفرد والمجتمع ، قال تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، وإن الله لمع المحسنين ) العنكبوت:69
No hay comentarios:
Publicar un comentario