miércoles, 23 de febrero de 2011

الوجود الإسلامي في إسبانيا : مؤثرات وإرهاصات


إذا تجاوزنا القرون الثمانية الخصبة , التي عاشتها شبه الجزيرة الايبيرية في ظل الإسلام وتجاوزنا أيضاً ـ على أهميته ـ تاريخ الموريسكيين وجذوره الضاربة في الحياة والتاريخ الإسباني منذ خروج المسلمين رسمياً عام 1492 م  وسقوط دولة بني الأحمر , وعلى ما يزيد من قرن من الزمان , ثم اشتداد البأس والخوف الذي أصابهم خلال محاكم التفتيش .


إذا استثنينا هذا التاريخ الذي تستغرق دراسته والبحث فيه , وتقصي وقائعه وتدوينه المجلدات العديدة والأعمار الطويلة , وانتقلنا إلى التاريخ المعاصر , لرأينا بأن الوجود الإسلامي في إسبانيا أخذ يتطور بسرعة فائقة إثر الحرب الأهلية الإسبانية التي دارت رحاها في الأربعينات من هذا القرن والتي خربت البلاد وقضت على كثير من العباد .

ومن المفيد ذكر بعض التفاصيل التي تقرب إلى  أذهاننا صورة المسلمين في هذه الفترة وتضعنا أمام بعض المعطيات التي أثرت في رسم خريطة وجودهم .
أولها : استعانة الجنرال فرانكو بالجنود المغاربة في مقارعته لخصومه أثناء الحرب الأهلية , وسقوط المئات منهم ضحية هذه الحرب , وما المقابر الإسلامية العديدة المنتشرة في أنحاء إسبانيا إلا شاهداً على هذه المشاركة بالإضافة إلى أن حاميته العسكرية وحرسه الخاص كان من هؤلاء الجنود , واستمر هذا الأمر إلى بضع سنين قبل موته .

وبما أن حكم الجنرال فرانكو اتسم بالتسلط والدكتاتورية , فقد ارتبطت بأذهان الناس صورة الإسلام بالجنود المغاربة الذين جاؤوا إلى إسبانيا لمدافعة الشيوعية التي لاتؤمن بالله ـ كما سُوِّغ لهم الأمر ـ ولذلك بقيت صورة قاتمة سلبية مازالت آثارها إلى الآن , لأن رجل الشارع الإسباني يصنف الجنرال فرانكو ومن آزره في حكم زمرة أعداء التحرر والتعددية الحزبية والديموقراطية .

ثانيها : ارتباط سياسة الجنرال فرانكو    بالكنيسة الكاثوليكية , وإسقاط فكرة أن" وحدة البلاد رهينة بوحدة المعتقد " أي أنه لاستمرار وحدة البلاد بمقاطعاتها المختلفة ولغاتها المتعددة يجب الإبقاء على معتقد واحد هو الكاثوليكية . هذه الفكرة أخرت كثيراً من التوجه نحو إشاعة جو الحرية الدينية في إسبانيا , فقد كان الجيش والكنيسة يربطون ربطاً وثيقاً بين وحدة البلاد ـ خاصة بعد ظهور حركات انفصالية إقليمية وطنية تطالب بالاستقلال عن باقي التراب الإسباني إثر الحرب الأهلية الطاحنة ـ والعقيدة الدينية الواحدة هي الديانة الكاثوليكية , وما كان أحد يسمح حتى لطوائف نصرانية أخرى كالبروتستانت والأرثوذكس من الإعلان عن ديانتهم .

ثالثها : زواج ولي العهد الإسباني  الأمير خوان كارلوس من شقيقة ملك اليونان الأميرة صوفيا , التي تعتنق مذهب بلادها المذهب الأرثوذكسي , سهل لهذه الطائفة الموجودة في إسبانيا على قلة عددها من الإعلان عن وجودها عملياً , على الرغم من اعتناق الأميرة صوفيا لمذهب زوجها الأمير خوان كارلوس الكاثوليكي , هذا الأمر جرّأَ المعتقدات النصرانية الأخرى على التصريح عن نفسها ولكن بصورة غير رسمية .

رابعها : نمو العلاقات المشتركة بين نظام فرانكو والولايات المتحدة الأمريكية على حساب العلاقات الإسبانية الأوربية التي تدهورت هذه الأخيرة ـ بعد تسلم فرانكو للحكم وتعليقه للنظام الملكي وقضائه على التوجه الجمهوري , وفرضه لنظام الحزب الواحد ـ حزب الحركة ـ في الدولة الإسبانية , نمو هذه العلاقات الإسبانية الأمريكية سهل تخفيف الرقابة على المذهب البروتستانتي المدعوم من الولايات المتحدة , كما أن أعداداً كبيرة من اليهود بدأت تعود إلى إسبانيا من بعض الدول العربية المجاورة , وخاصة المغرب ومن دول أمريكا الجنوبية والتي حافظت على أصولها البروتستانتية القديمة .

خامسها : محافظة الجنرال فرانكو على علاقات طيبة مع العالم العربي بدءاً من المغرب وحتى العراق مروراً بالجزائر ومصر وسورية , وكان من أسباب هذا الموقف : دعم المغرب له في حربه مع خصومه في الحرب الأهلية , وكذلك دعم الدول العربية لنظام حكمه , وتنشيط التبادل التجاري .

كذلك موقفه الثابت من قضية فلسطين , وعدم اعترافه بدولة إسرائيل , وأيضاً ترحيبه بالطلبة الوافدين للدراسة في الجامعات الإسبانية من مختلف أقطار العالم العربي , واستقدامه لليد العاملة المغربية في الستينات للمساهمة في النهضة العمرانية التي كانت في أوجها في تلك الفترة في عدة مناطق من إسبانيا .

هذه هي أهم الأسباب الظاهرة التي تركت بصمات واضحة في الوجود الإسلامي المعاصر في إسبانيا , كما أنه لا يمكن أن تمحى من الذاكرة التاريخية لشعوب إسبانيا القرون الثمانية بما فيها من مجد وسؤدد , فهي تباهي أوربا برمتها برصيدها الحضاري , وبأنها لم تعش ظلمات القرون الوسطى التي عاشتها أوربا , بل كانت في نفس الفترة تشع نوراً وعلماً وثقافة وخيراً , وما مسجد قرطبة الجامع والحمراء والزهراء , وأبنية المساجد المموهة , وأطلال العمارات الإسلامية من قصبات وأبراج وكتبيات وأسوار ,  إلا عوالم تنبض بالحياة إلى وقتنا هذا , وما أسماء المدن والقرى والأنهار والبقاع , وآلاف الكلمات التي تعج بها مفردات اللغة الإسبانية إلا شواهد باقية على عاديات الزمن . فكيف تزال من الذاكرة إيقاعات الشعر , وجرس الموشح , ومعنى المثل , بل كيف تمحى طباع الكرم والجود والفروسية الراسخة في نفوس الناس وفي عاداتهم وسلوكهم ؟ .

وإن زال كل هذا فكيف نزيل الدماء الجارية في العروق , والسحنة السمراء والعيون السود .      

لقد توافد ألوف من  الطلبة المسلمين من بلاد المشرق العربي بالإضافة للمغرب الأقصى بغرض الدراسة الجامعة , في أواسط الستينات من القرن الحالي , ومنذ هذا التاريخ أخذ الوجود الإسلامي يظهر جلياً , إذ أن طبيعة الطلبة وحماسهم وكون العديد منهم يتحلى بمواصفات إسلامية عالمية المستوى أدى إلى تجميعهم في روابط وجمعيات طلابية ثقافية , وكان للقانون الأول الذي سمح بإشهار المعتقدات الدينية والذي صدر عام 1967 م أبلغ الأثر في أن يأخذ هذا الوجود الإسلامي طابعه الرسمي .

وبالفعل فقد حصلت بعض التجمعات الطلابية على ترخيصات رسمية , في مستويات مختلفة منها على المستوى المحلي ( في نطاق البلدية والمحافظة ) ومنها على المستوى الوطني      ( ولكن بصفة ثقافية تربوية ) ومنها ـ وهو  الأرسخ  ـ ذو طابع ديني محض , وكان ترخيصه صادر عن وزارة العدل الإسبانية .

على أننا لا ننسى بأن  الوجود الإسلامي يسبق الطلبة , وهو المتمثل بالعمال المغاربة الذين وفدوا إلى إسبانيا للعمل , وخاصة إثر النهضة العمرانية التي شملت بعض الأراضي الإسبانية , غير أن تأثيرهم في الدعوة لم يكن ليتعدى أنفسهم , وبقي ضمن النطاق التقليدي السائد في بلد الأصل المغرب .

وعلى مرور الأيام .. أخذ الطابع الطلابي ـ وهو المهيمن حتى منتصف السبعينات ـ يأخذ حجمه المناسب  في الوجود الإسلامي ككل إلى جانب قطاع العمال والمتخصصين , الذين أنهوا دراساتهم الجامعية والعليا , ولسبب أو لآخر استقرت أحوالهم في هذا البلد , الأمر الذي رسّخ أركان الجالية الإسلامية وقوى من دعائمها .

لقد عاد الإسلام إلى إسبانيا من جديد ليبقى ـ بإذن الله  ـ إلى يوم البعث . لقد عاد ليبقى ودليل ذلك اعتناق عدد كبير من الإسبان الإسلام , مما أدى لتغيير الواقع الإسلامي وتعديل صورته الإجمالية .

إن دخول هذه العناصر الحيوية الجديدة يحتاج إلى دراسة جادة واعية بهدف ترشيد تحركها وإيضاح الملابسات التي تعترض سبيلها وتعيق مسيرتها , ولا بد من دراسة الوجوه السلبية والايجابية بإنصاف وتجرد لتحقيق هذه الغاية , ولهذا الأمر موضع آخر بإذن الله .

غير أنه من المناسب ذكر بعض الظواهر التي تبشر بتنامي الوجود الإسلامي في إسبانيا وأسبابها .

لقد ظهرت في الآونة الأخيرة صيحات عديدة من مفكرين وصحفيين وسياسيين تطالب بدراسة الحقبة الإسلامية من تاريخ إسبانيا , كما شكلت حلقات ودراسات , وبرامج إذاعية مسموعة ومرئية تتحدث عن الإسلام , تاريخه  وحاضره , كتبت بأيدي متخصصين لهم باع طويل في هذا المضار  .

وهكذا نرى أن صفحة جديدة قد بدأت تكتب عن تاريخ إسبانيا نرجو أن تكون بداية لعمل جاد متواصل .

ويأتي عامل التنبه للوجود الإسلامي في إسبانيا مؤيداً ببعض المواقف المعبرة هاكم بعضها :

ـ عقب منح الاستقلال الذاتي لمختلف المقاطعات الإسبانية أخذت كل مقاطعة تعود إلى الماضي بحثاً عن جذورها التاريخية .. ولم تجد المقاطعة الكبرى المسماة ( أندلسيّا ) بداً من العودة إلى الجذور الإسلامية والإرشاد الثقافي العريق الممتد عبر ثمانية قرون من الحضارة الزاهرة  , بل واتخذت من الألوان الإسلامية الأبيض والأخضر ألواناً مميزة لعلمها الخاص .

ـ غير أن حادثة طريفة  نشرتها صحيفة ( الباييس ) اليومية والواسعة الانتشار  تدل على عمق هذا الإحساس وتناميه بين صفوف الناس ..

" لقد أرسل أحد التجار من بلنسية رسالة تجارية لزميل له في برشلونه , فردّ عليه الأخير طالباً منه المراسلة باللغة القلطونية , فأجابه الأول : إن لغة التعامل بين سائر الإسبان هي اللغة الإسبانية . فرفض الثاني وألح على لغة مقاطعته .. فما كان من التاجر البلنسي إلا أن كتب له الرد باللغة العربية , وطلب منه أن يعامله بالمثل على أساس أن مقاطعته تنتسب إلى العربية لغة الإسلام " .

ولعل للإعتراف الرسمي بالدين الإسلامي في تموز / يوليو 1989 م  دلالة واضحة على التأثير الحضاري ماضياً وحاضراً في المجتمع الإسباني  , وعقب هذا الاعتراف إجراء المفاوضات الرسمية لنيل الحقوق الدينية للمسلمين بناء على النص الدستوري وقانون الحرية الدينية , وتوقيع الاتفاق بين الحكومة الإسبانية والهيئة الإسلامية في إسبانيا في نيسان / أبريل 1992 م .

كل هذا مؤشر جلي لرسوخ قدم الوجود الإسلامي على الصعيد الرسمي إضافة للصعيد الشعبي . 

ومن المتوقع أن يتم التصويت على مشروع قانون اتفاق التعاون بين الدولة الإسبانية والهيئة الإسلامية في إسبانيا في وقت قريب من هذا العام وبحصول هذا الأمر ـ إن شاء الله  ـ ستتمتع الجالية الإسلامية في إسبانيا بغطاء قانوني ينظم علاقات المسلمين بالدولة ويحفظ حقوقهم ويساويهم بغيرهم في هذا المجال ..


                                           رياج ططري

No hay comentarios:

Publicar un comentario