يدور في الساحة الإسبانية خصوصاً والأوروبية عموماً جدل حول التعددية الثقافية ، وكيفية التعامل مع الثقافات الوافدة ، مع المهاجرين القادمين إليها من بلاد لها خصوصيتها الثقافية المتميزة .
ويحضرني هنا مقولة لمسؤول كبير في الحكومة الاسبانية ، منذ عقد من السنين عندما قال : « إن عدد المسلمين الآن لا يثير كثيراً من القلق لدى الدوائر الفاعلة ، غير أنه عندما يشكل عددهم نسبة كبيرة من عدد السكان فإن الأمر لن يصبح كما نراه الآن » .
لقد سعت الجماعات الإسلامية منذ ما يزيد على العقدين من السنين لبدء حوار جاد مع مؤسسات الدول الأوروبية وصولاً لتعايش يحترم الخصوصية الثقافية والدينية لهم ، مع العمل الجاد من الطرف الإسلامي للاندماج في المجتمعات الأوروبية .
غير أن شعار الاندماج المطالب به ، كان يضم بين جناحيه مضموناً يفضي إلى الذوبان لا الاندماج ، ولذلك هبت صيحات في صفوف المسلمين تنادي لعدم الاستجابة لهذا النداء .. والسعي لعزلة نفسية على أقل تقدير .
غير أن الناظر في واقع الحال ، يصل بسهولة لضرورة العمل على تحرير المواقع التي يجب أن يتحرك فيها المسلمون حفاظاً على هويتهم الثقافية والدينية ، دون التخلي عن مبدأ الاندماج في المجتمع ومؤسساته المختلفة ، لأن الانسحاب يعني العزلة والهزيمة ، وهذا ما لا يتفق مع طبيعة الدين الحنيف وأهله على مدى التاريخ .
وفي هذا الصدد قام عدد من العاملين المخلصين بتفنيد هذه الظاهرة ، وبيان ضرورة الاستغناء عن العادات التي لا صلة لها بالدين ، والتركيز على أركان الإسلام وقيمه وأخلاقه صافية نقية .
وقد لاقى هذا التوجه وخاصة من أبناء الجيل الثاني من أبناء المسلمين ترحيباً حاراً وقبولاً واعياً ، والتزاماً صادقاً مجيبا .
غير أنه بين الفترة والأخرى يطلع علينا من يسعى لسلخ المسلمين عن معتقداتهم وقيم دينهم بحجة أنهم لا يندمجون في المجتمع ، وأن تعاليم الإسلام لا تناسب المجتمعات الأوروبية والنظام القائم فيها ، بحجة أنها معادية للحضارة الغربية والديمقراطية والتعايش .
ومن هؤلاء الذين تولوا كبر هذا المنطق ، الأستاذ في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة والإيطالي الأصل جيوفاني سارتوري ، والذي نعده أخطر من سابقه صاحب كتاب ( صراع الحضارات ) لأن كتابه ( المجتمع متعدد الأعراق : التعددية ، والتعددية الثقافية للأجانب ) يلقى قبولاً من فئات كبيرة تحتل أماكن ذات تأثير بالغ في المجتمع .
هذا الكتاب الدعائي والموجز سيحسب له حساباً ـ أعجبه ذلك أم لا ـ كل من يفكر بجدية في أكبر تحد للمجتمعات المتطورة .. في العقود القريبة القادمة : الهجرة أو الولوج غير المنظم لأتباع الثقافات المختلفة أو المغايرة والذين يبحثون عن مستقبل لهم في وسط اجتماعي غريب عنهم ، وصعب ، وفي كثير من الأحيان يعتبرونه معادياً .
يقول سارتوري في كتابه هذا عن الهجرة ، والمقصود هنا هجرة المسلمين .. « إن البعد الثقافي ، عنصر أساسي في معايرة الهجرة . والإسلام يمثل الطرف الأكثر بعداً عن أوروبا ، بسبب نظرته الثيوقراطية للعالم ، معتقداته مضادة للنظام التعددي ، واندماج أتباعه صعب جداً ، ولكن هذا الوضع سيتحسن مع المهاجرين في جيلهم الثاني ، فغالبيتهم سيتطبعون بالبعد الاجتماعي ، وسيكونون مهيئين ليكونوا مواطنين ، دائماً وبشرط أن لايتربوا في مدارس إسلامية » .
« المهاجرون حسب سارتوري هم شرعيون وغير شرعيين وهؤلاء ليس لهم حقوق » .
« وحسب هذا المعيار فإن الهجرة يجب أن تعالج وفق مبادئ ثلاث :
1- التعامل بالمثل : إذا دخل أحد بيتك فله الحق بأن يُستقبل ، ولكن عليه أيضاً أن يتنازل .
2- رفض الدوغماتيزم : لا يمكن قبول وتبرير الأشياء بفعل الأمر الإلهي .
3- ومبدأ عدم الإيذاء : ليس من أحد يجبر على قبول أي شيء قد يسبب له الأذى » .
ويحذر بعد ذلك من أن : « الهجرة غير الشرعية لا يمكن السيطرة عليها عددياً ، ومن المستحيل السيطرة عليها نوعياً » .
لذا فهو يطالب بوجود للمهاجرين ـ أي من المسلمين ـ بقدر الحاجة الاقتصادية لهم .
وإلا يقول ساتوري « فإنهم سيقومون بنشاطات غير قانونية ومحرمة » .
وينتقد بشدة أولئك الذين يلتزمون بالمبادئ عند اتخاذ القرارات ، وخاصة أولئك السياسيون الذين ينادون بالمساواة بين سائر أبناء الوطن الواحد ، ويعد التعددية الثقافية المفتوحة خطراً على أوروبا والحضارة الغربية .
يقول : « إن التعددية الثقافية بحد ذاتها عبارة عن أيديولوجية فارغة ، لأنها تقسم الناس وتواجههم بعضهم ببعض » .
ويركز بكل وضوح بأن ما يريد من التعددية الثقافية أن تكون وفق معطيات محددة نابعة من الحضارة الأوروبية : « نحن ندعو للتعددية الثقافية ولكن من منظورنا الخاص الذي يحترم الإنسانية وحقوق الإنسان ولا يمكن أن نقبل ثقافة أخرى إلا بناء على هذه الأسس » .
وكأنه يريد أن يقول بأن الإسلام لا يحترم الإنسانية ولا حقوق الإنسان ولا يقدر أتباعه أن يتعايشوا مع غيرهم .
ولا يعتقدن قارئ بأننا نحمل النص ما لا يحمله ، فالمؤلف يتحمل هذه المقولة بكل أبعادها فهو يدعي :
« بأن الحجة القائلة بأن الحضارة الغربية والإسلام الحالي هما أساساً لا يتصالحان فيما بينهما : أمر أعتقد به وأنا مستعد للدفاع عنه » .
وفي كتابه الأخير الذي عنوانه : ( الأرض تتفجر ) كال الاتهامات جزافاً لكل من يخالف رأيه من بابا روما إلى الرئيس الأمريكي الحالي بوش .
ودعا بصراحة لتحديد النسل القسري ، والعناية البالغة بالكوكب الأرضي .
ولم ينس سارتوري التعرض للإسلام والمسلمين في كل فرصة تسنح له ، ففي معرض سؤاله عن الصراع بين الحضارات قال :
« لا أعتقد بالحرب بين الحضارات ، ولكن نعم ، العالم الإسلامي سيبقى معادياً لحضارتنا وسيعمل على إخضاعنا له إن استطاع » .
وينوه بدور البلدان المتقدمة في دورها بتحديد النسل فيقول :
« على البلدان المتقدمة رسم سياسة دقيقة للولادات واشتراط المساعدة ـ الفردية أو للدول ـ على الوفاء بأهداف تحديد النسل » .
ويختم مقابلة صحفية له بقوله :
« الإسلام عدو الديمقراطية ، والتعايش ، ولذلك علينا أن لا نمكنه من مواقع التأثير والنفوذ » .
هل نحن بصدد رؤية سوداوية للوجود الإسلامي في أوروبا ؟ لا بل نتعرض لأمر له ما بعده ، فكتاب سارتوري أصبح بمثابة ( الدليل ) في التعامل مع المهاجرين المسلمين ، يرجع إليه الساسة وعلماء الاجتماع بل وحتى المشرفون الاجتماعيون والأكاديميون من المثقفين ..
عندما احتفلت مقاطعة مدريد بالذكرى العشرين لنظام المقاطعة ، تحدث الناطق الرسمي باسم الحكومة مشيداً بالتوجيهات التي ذكرها سارتوري في كتابه حول التعددية الثقافية معتبراً إياها سلم نجاة للمجتمع الاسباني وأوروبا عامة من طغيان الهجرة .
لذا فإننا يجب أن نسعى جاهدين لتبيان هذه المغالطة وغيرها من المغالطات ، لكي نحمي وجودنا وأجيالنا التي نمت وترعرعت فيها تتقن لغاتها وثقافتها ، وتبحث عن مكانها اللائق في كافة المجالات .
وأذكر ختاماً بأن وزير خارجية إسبانيا الأسبق فرناندو موران دعا في البرلمان الأوروبي للمعاملة المنصفة للثقافة والدين الإسلامي ( لأنه - كما قال - إن لم يكن أسمى وأرقى من الحضارة السائدة فإنه لايقل عنها قدراً ورفعة وسمواً ) .
قال : « لقد صفق أعضاء البرلمان طويلاً طويلاً ، ولكن الواقع لم يتغير فلنعمل معاً على تغييره » .
رياج ططري
No hay comentarios:
Publicar un comentario