جاء في مختار الصحاح : الهم : الحُزن و (أهمني) الأمر : أقلقني أي أتعبني وجعلني مضطرباً ، ويقال : (أقلقه) الهم أي أزعجه .
وجاء في قاموس مجمع القاهرة ما يلي :
(قلق) الشيء - قلقاً : حركه وقَلَقَه الهمُّ وغيره : أزعجه والقلق : حالة انفعالية تتميز بالخوف مما قد يحدث .
وعلى التحديد فإن الهم هو : القلق والحزن .
قال تعالى : { وابيضت عيناه من الحزن }
{ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر }
{ وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن }
وجاء في المسند وصحيح أبي حاتم من حديث عبد الله بن مسعود قال : « قال رسول الله e : ما أصاب عبداً همٌّ ولا حزنٌ فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ماضٍ فيّ حكمك عدلٌ فيّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي ، إلا أذهب الله همّه وغمّه ، وأبدله مكانه فرحاً . قالوا : يا رسول الله أفلا نتعلمهن ؟ قال بلى ، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن » .
الهم عبر العصور :
والقلق والخوف من الانفعالات الإنسانية الأساسية ، وهما مترادفان من حيث النتائج ، ومرتبطان بعضهما ببعض من وجهة النظر النفسية . والخوف مفهوم واسع منذ أقدم العصور وفي الثقافات والأديان كلها… ظهر في الكتابات الهيروغليفية (المصرية القديمة) وأبرزت كتابات عدد من الفلاسفة والمفكرين المسلمين مفهوم القلق منذ غابر السنين وعبروا عنه بعبارة الهم ، وفي عصرنا الحاضر بحث مشكلة القلق فلاسفة محدثون مثل : باسكال ونيتشه وشوبنهاور ، فضلاً عن كيركجارد ومن تلاه من فلاسفة المذاهب الفكرية الحديثة .
ويعبر ابن حزم عن ذلك حيث يقول :
“ فطرد الهم مذهب قد اتفقت الأمم كلها مذ خلق الله تعالى العالم ، إلى أن يتناهى عالم الابتداء ، ويعاقبه عالم الحساب ، على أن لا يعتمدوا بسعيهم شيئاً سواه ” .
ويؤكد رحمه الله على عمومية القلق بوصفه حالة أساسية من حالات الوجود الإنساني ، ويعبر عنه قوله هذا بأن غاية الأفعال الإنسانية هي الهروب من الهم ، بل ويجزم بأن كل أفعالنا وأقوالنا إنما تهدف إلى طرد الهم وتصريفه .
“ تطلبت غرضاً يستوي الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه فلم أجده ، إلا واحداً وهو طرد الهم ، فلما تدبرته علمت أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط ، ولا في طلبه فقط . ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم ومراداتهم ، لا يتحركون حركة أصلاً ، إلا فيما يرجون به طرد الهم . ولا ينطقون بكلمة أصلاً ، إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم ، فمن مخطئ وجه سبيله ، ومن مقارب للخطأ ، ومن مصيب ، وهو الأقل من الناس ”.
وقد أفرزت العلوم الحديثة مباحث هامة في علوم النفس والطب النفسي والفلسفة والآداب والفنون والدين ، كلها تحدثت عن الهم بوصفه ضرورة متجددة في حياة الإنسان لأن طرده ملازم لبقاء الحياة الإنسانية التي لا يزول إلا بزوالها .
ويعرض ابن حزم أحوال الناس وهمومهم ، وما يقلقهم خلال مسيرة حياتهم بقوله :
“ وإلا فإنما طلب المال طلابه ، ليطردوا به هم الفقر عن أنفسهم… وإنما طلب اللذات من طلبها ليطرد بها عن نفسه هم قوتها . وإنما طلب العلم من طلبه ؛ ليطرد به عن نفسه هم الجهل . وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك ، ليطرد بها عن نفسه هم التوحد ومغيب أحوال العالم عنه ”.
هذا من الجانب النفسي الاجتماعي وما يعبر عنه بالصراع بينهما وقد يحتوي كل منهما الآخر ، وقد يستقل عنه ، وفي تساوقهما مع الجانب الغريزي الذي يؤثر تأثيراً واضحاً في الحياة الإنسانية وشغلها بتأمينه يضيف قائلاً :
“ وإنما أكل من أكل ، وشرب من شرب ، ونكح من نكح ، ولبس من لبس ، ولعب من لعب ، وكنز من كنز ، وركب من ركب ، ومشى من مشى ، وتودع من تودع ؛ ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم ” .
وهذه الجوانب وإن لانت تهدف لطرد الهم وإبعاد آثاره لكنها بحد ذاتها نافعة لأنه بها تقوم الحياة الإنسانية ، وتدفع عجلتها وما بها من بأس إلا إذا غدت هدفاً بعينها .
والقلق هو بمثابة الألم بالنسبة للمرض ، أي صفارة الإنذار التي تنبهنا بوجود علة في الجسم لنهب لعلاجها .
كذلك القلق يدفعنا للتحرك عندما يداهمنا أمر نود صرفه أو الابتعاد عنه .
“ والقلق الطبيعي هو الذي نشعر به عندما نتعرض لأزمة وشدة خارجية ، كفقد الوظيفة أو العمل ، والصعوبات الزوجية ، ومرض أحد الأولاد . وقد يسمى هذا القلق الطبيعي « انشغال البال » أو الهم الذي يصيب الإنسان في مثل هذه الظروف ، وقد يلازمنا هذا القلق حتى تنتهي هذه الظروف الخاصة بطريقة أو بأخرى .
وعندما يحدث القلق كردة فعل أمام خطر مباشر آني ، مثلاً أمام كلب كبير متوحش ، فقد نسمي هذا القلق أو هذه الحالة النفسية بالخوف أو الرعب ”(1)
وكما ليس منا من يحب الألم ويصبر عليه ، كذلك ليس منا من يسر من القلق ويرضى به . يقول ابن حزم : “ وليس في العالم مذ كان إلى أن يتناهى أحد يستحسن الهمّ ، ولا يريد إلا طرحه عن نفسه ”.
بعد هذا العرض الواضح لأثر القلق والهم في حياة الإنسان يتوصل ابن حزم إلى نتيجة حتمية لإنسان مؤمن بالله يبحث دوماً عن الحقيقة التي توصله لمرضاة الله ، وقد جاء استاذ الفلسفة في جامعة هارفرد وليم جيمس ليقرر نفس النتيجة التي بسطها بوضوح لا لبس فيه ابن حزم في كتابه مداواة النفوس حيث قال : “ إن أعظم دواء شاف للقلق ولا شك ، هو الإيمان ” أما ابن حزم فيقرر منذ قرون طويلة الحقائق التالية : “ فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع ، وانكشف لي هذا السر العجيب ، وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز العظيم . بحثت عن سبيل موصلة - على الحقيقة - إلى طرد الهم ، الذي هو المطلوب النفيس ، الذي اتفق عليه جميع أنواع الإنسان ، الجاهل منهم والعالم ، والصالح والطالح ، على السعي له فلم أجد إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة ”.
ويتابع شارحاً معللاً :“ ووجدت في العمل للآخرة سالماً من كل عيب ، خالصاً من كل كدر ، موصلاً إلى طرد الهم على الحقيقة .
ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل ، لم يهتم بل يُسر . إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال به عون على ما يطلب ، وزايد في الغرض الذي إياه يقصد .
ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق . لم يهتم ، إذ ليس مؤاخذاً بذلك ، فهو غير مؤثر فيما يطلب . ورأيته : إن قُصد بالأذى سُرّ ، وإن تعب فيما سلك فيه سُرّ . فهو في سرور متصل أبداً ، وغيره بخلاف ذلك أبداً .
فاعلم : أنه مطلوب واحد ، وهو طرد الهم . وليس له إلا طريق واحد ، وهو العمل لله تعالى . فما عدا هذا فضلال وسخف ” .
ومن هديه صلوات الله وسلامه عليه في هذا الأمر الجلل ما علمنا إياه من دعاء فقد كان e يستعيذ من الهم والحزن في دبر كل صلاة قال ابن عباس : « من كثرت همومه وغمومه فليكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله » [متفق عليه].
ومن دعائه e قوله : « اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين ، وقهر الرجال » [رواه أبو داود].
ومن فضل الله على عباده المؤمنين أنه أثابهم على ما يعانون منه في حياتهم خيراً كثيراً ، فليجدد كل منا النية وليحتسب عند الله مصابه وليعمل بنصيحة النبي عليه أزكى السلام وأعطره حيث قال المصطفى e : « لا يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها خطاياه » [رواه البخاري]. كما قال : « عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير ؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن » [رواه مسلم] .
رياج ططري
No hay comentarios:
Publicar un comentario