عبر التاريخ الإنساني كله كان الفهم السائد للحياة الدنيا يتكون من جانبين ؛ جانب مادي ، وجانب معنوي ، وكان الناس يتفاوتون في تحقيق التوازن بين هذين الجانبين ، كلٌّ بحسب بيئته الحضارية والاجتماعية ، والعوامل التي كانت تسيّر هذا الفهم وتؤثر فيه سلباً أو إيجاباً .
وفي هذا القرن حدث تغيير على فهم الحياة ، حيث انكفأ الناس على الاهتمام بالجانب المادي فحسب ، وذلك من جراء هيمنة الحضارة الأوروبية وانتشار الذهنية الغربية المادية في مختلف شعوب العالم وثقافاته ، بل وتقلص الجانب المعنوي واعتباراته الأخلاقية بسبب التيارات الفكرية والفلسفات الانحلالية والسلوكية المجاهرة بالتفلت والتحلل وقدرتها على الانتشار والتوغل في النفوس بصورة سريعة مذهلة .
إلا أن هذا التطور في هذا الفهم يعتبر جزئياً في حياة الإنسان ، لأن الجانب الروحي والاعتبارات المعنوية مسألة عميقة الجذور في فطرة الإنسان وتكوين مجتمعه ، ومهما حاول الناس تقليص فعاليتها فإنهم لا يستطيعون ذلك إلا في حدود . فخلق الوفاء والالتزام بالعهود في أكثر المجتمعات اضطراباً وتحللاً يبقى قيمة محترمة في نظر الناس ولو لم يصرحوا بذلك ، لأنه خلق عميق في فطرة الإنسان ، وعفاف الزوجة حتى في أكثر المجتمعات مجاهرة بالفساد والإباحية يعتبر قيمة مقدرة مرغوباً فيها… وما حرص الحكومات والأفراد على رفع شعار الاعتبارات المعنوية الإنسانية ولجوؤهم إلى التبرير ، واحتمائهم بالأخلاق ، وأحياناً التظاهر بالدفاع عنها وتبنيها إلا الدليل على وجودها كعنصر مسلّم به من عناصر الفطرة السليمة للإنسان ، التي لا يمكن فهم الحياة والتعامل معها إلا من خلالها .
ألا ترى كيف تكثر المناداة بالتضامن عند تدهور هذه القيمة في المجتمعات ، وبالحرمة عندما ينتشر الظلم ويسود التعسف والاستبداد ، كل ذلك يحدث لأنها قيم ثابتة في فطرة الإنسان ، يتعشقها ويذود عنها ، ويبذل في سبيلها الغالي والنفيس .
تصور الإسلام للحياة الدنيا
كانت مهمة الأنبياء منذ بعثهم الله مبشرين ومنذرين إلى خاتمهم محمد e مكافحة الانحراف في فهم الحياة الدنيا ، يجاهدون في إرساء التصور الصحيح والقويم النابع من الإسلام وأسلوبه في التعامل مع الحياة .
إن تصور الإسلام لا يلغي الجانب المادي ، بل يقر حاجات الإنسان وضرورات العيش وفي الرفاهية : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } ولكنه يدخل تعديلاً في الساحة الواسعة التي يعطيها له المفهوم الجاهلي ، حتى ليتجاوز نفس الإنسان ووقته ، فيعطيه الإسلام نسبة توافق حاجته ونسبة أقل من اهتمامه النفسي بعد تهذيبها .كما أن الإسلام لا يلغي الجانب المعنوي ، ولكنه أيضاً يدخل فيه تعديلاً جذرياً ، فيلغي بعض القيم ، ويصحح بعضها الآخر ويضيف قيماً جديدة .
هذا التهذيب والتشذيب الذي يدخله الإسلام على فهم الحياة يحدث تأثيراً كلياً على نظرة الناس إلى الحياة وتعاملهم معها .
إن الإسلام بطرحه الجديد ، يقدم لنا فهماً للحياة من منظور يتلاءم وطبيعة الإنسان ودوره في الحياة ، ويرسم لنا اتجاهاً حضارياً متميزاً بمقياسه وأسلوبه عن غيره من الاتجاهات الحضارية . فأحجام الحاجات المادية والقيم المعنوية بمقياس الإسلام تختلف عن أحجامها بمقياس غيره ، ونسبها أيضاً تتفاوت وتتباين حسب المقتضيات والأحكام ، بل إن أسلوب المسلم في التعامل مع الحياة يختلف شكلاً ومضموناً عن أسلوب الآخرين .
فرب أمر مادي له حجم كبير عند الناس ، يكون في مقياس المسلم فضولاً أو شيئاً ضئيلاً ، والعكس صحيح . ورب اعتبار معنوي ضخم عند الناس يكون في مقياس المسلم وهماً أو تفاهة ، والعكس صحيح .
وربما أقدم المسلم في موقف يحجم عنده الناس ، والعكس صحيح ، وربما فرح المسلم مما يحزن منه الناس ، والعكس صحيح…
بين النظرية والتطبيق
لا يوجد أية صعوبة أو إشكال في فهم تصور الإسلام عن الحياة والاقتناع به ، بل نجد في كل وقت من يقم لنا هذا التصور بأسلوب ممتع أخاذ ، يعرض فيه لعقيدة الإسلام وشريعته ويبرهن عليه بأسلوب سهل جذاب… { ولقد يسرنا القرآن للذكر } ، غير أنه شتان بين النظرية والتطبيق ، بين القول والعقل ، بين الادعاء والالتزام… شتان بين من يلتزم ويطبق بمقياس الإسلام ، وبين من يدعي ذلك قولاً لا يقوم عليه برهان عملي صادق . هنا تكمن المشكلة بالالتزام العملي بالإسلام وبالمخالفة الكلية لأي تصور سواه .
ويمكننا أن نوجز العقبات والصعوبات التي تقف حائلاً دون التزام المسلم وتدني مستوى إيمانه ويقينه إلى الضغوط التي تمارس عليه عند تعامله بمقاييس الإسلام ، وبالمنسيات التي تجعله يغفل ردحاً من الزمن معايير الإسلام ، مما يؤدي إلى التأثير السلبي على نمو الشخصية الإسلامية السوية ، كذلك من الأسباب : النفس والظروف المحيطة بما فيها من مغريات وملذات .
والمتفحص بنظم الإسلام وتعاليمه يدرك أن هذا الدين تنزل من العزيز الحكيم إلى الناس ؛ يخاطبهم جميعاً بما يملكون من قدرات فكرية وتكوين عاطفي وبنية جسمية ، يخاطبهم في ظروفهم المحيطة بهم وواقعهم الذي يتحركون فيه ، لم يتركهم دون توجيه وعلاج للمشاكل التي يعانون منها ويواجهونها في التطبيق ، بل وضع لهم جملة من التشريعات العملية التي تضع المسلم إذا ما عمل بها في جو الإسلام أحكاماً ومفاهيماً وشعوراً ، وتيسر له تطبيق مقاييس الإسلام ، هذه التشريعات يجمعها قاسم مشترك ألا وهو جامع « الارتباط بالله عز وجل » .
ويوصي الإسلام أتباعه بأن يجعلوا مسيرتهم في الحياة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالله ، في الأهداف والدوافع والوسائل والأساليب . فبدون ارتباطهم به ستنحرف بلا شك مسيرتهم وتضيع أهدافهم في السراب ، ويبقى الناس في أسر فهم سطحي جاهلي للأشياء والأسباب والأهداف .
في إطار ارتباط الإنسان المحدود بالله المطلق ، ارتباط المخلوق بالخالق فقط يمكن للناس أن يحيوا الفهم الإسلامي للحياة ويعودوا إلى العمل فيها بمقاييس الإسلام .
ولا يكفي الانتساب والإعلان بأن المسيرة مرتبطة وسالكة في طريق الله ، فالإعلان هو إيذان ببداية الطريق ، إذ لا يتحقق للناس أن ينعموا بهذا الارتباط إلا إذا ولجوا فيه وتغلبوا على كل ما يعترض مسيرتهم ويحيط بها ، ولا يقدرون على فعل ذلك إلا بالقيام بالتكاليف الشرعية التي تجعلهم يحيون في جو الارتباط بالله .
وأهم هذه التشريعات التي تزكي في النفس الارتباط بالله ، والعيش في هذا الجو ، العبادات المفروضة من صوم وصلاة وحج وزكاة ، غير أن ذكر الله ، وتسبيحه والدعاء والتفكير بآلائه ومحاسبة النفس ، يحمي كل ذلك المسلم ، ويجعله يعيش في آفاق روحانية دائمة ، تشفي نفسه وتريحه من كل الهموم التي يصاب بها وهو يسير في دروب الحياة المتعرجة ، وهو يؤكد مقياس الإسلام للأمور في كل شأن من شؤون الحياة.
رياج ططــــري
No hay comentarios:
Publicar un comentario